( باب ما جاء في ) فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
الفراش بكسر الفاء ما يبسط الرجل تحته ، ويجمع على فرش بضمتين ، فهو فعال بمعنى المفعول كاللباس ونحوه مما هو شائع ( حدثنا أخبرنا علي بن حجر ) بضم ميم ، وكسر هاء ( عن علي بن مسهر عن أبيه عن هشام بن عروة عائشة ) ورواه أيضا عنها الشيخان ( ) أي : في بيتها أو مطلقا ، ولما كان الفراش للجلوس أيضا قيدت بما ينام عليه ، وللإشعار بأنه لهما وقوله ( من أدم ) بفتحتين جمع أديم ، وهو الجلد المدبوغ أو الأحمر أو مطلق الجلد على ما في القاموس ، وفي بعض النسخ أدما بالنصب ، وعلى كلا التقديرين أنه خبر كان ، وهو ظاهر ، وفي بعض النسخ أدم بالرفع قال قالت : إنما كان فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي ينام عليه الحنفي : ووجهه ليس بظاهر ، ووجهه العصام بأنه خبر مبتدأ محذوف أي : هو أدم ، والجملة حال من الفراش ، وكان تامة انتهى .
ويمكن أن يكون في كان ضمير الشأن ، وجملة فراشه أدم بيان ، ولا يبعد أيضا أن يكون أدم خبر مبتدأ مقدر ، والجملة خبر كان وقوله ( حشوه ) أي : محشوه والضمير للفراش [ ص: 156 ] ( ليف ) جملة حالية أي : من ليف النخل ; لأنه الكثير بل المعروف عندهم في الصدر الأول ، وقال ابن حجر : الضمير للأدم باعتبار لفظه ، وإن كان معناه جمعا ، فالجملة صفة للأدم خلافا لمن منع ذلك ، وجعلها حالية من فراش انتهى .
وبعده لا يخفى ، وسيأتي زيادة تحقيق لهذا المعنى ثم قال ابن حجر : قيل أراد ذكر خشونة فراشه ليقتدى به ، وهاهنا دقيقة وهي أنه لم يختر هذا الفراش لنفسه ، وإنما نام فيه رعاية لزوجته ، وإلا فالغالب أن ينام على التراب ، ويشهد لذلك أنه لما رأى عليا نام على التراب مدحه بأن كناه بأبي تراب وليس معناه ما يفهم من التصاق التراب ببدنه ، فإن الأبوة تقتضي التربية ، فسماه بعمله ، وناداه بأبي التراب يعني أن الأرض في حيطة تربية وجودك إياه برياضة اخترتها ، وقبول حصل لك من ربك انتهى . بلفظة وأنت في هذا الكلام المعقد المبني على مجرد الحزر والتخمين الحقيق بأن يوصف بأنه نخالة لا دقيق من وراء التأمل كيف ، وقوله : الغالب أن ينام على التراب لا أصل له ، ولا وارد يعضده بل المعلوم من حاله - صلى الله عليه وسلم - كما يعلم مما سأذكره أنه لم ينم إلا على شيء حصير أو غيره ، وقوله ، ويشهد إلخ في غاية السقوط إذ لا شاهد في تكنيته - صلى الله عليه وسلم - لعلي بأبي تراب على زعمه أن الغالب أنه - صلى الله عليه وسلم - كان ينام على التراب ، وقوله وليس معناه إلخ ممنوع بل هذا هو الحامل على التكنية كما يشهد له أبا تراب فما كناه بذلك إلا حينئذ ، وإنما نام عليه ; لأنه أنه - صلى الله عليه وسلم - صار ينفض التراب عنه ، ويقول له قم يا كان بينه وبين فاطمة شيء فذهب غضبان إلى المسجد ونام على ترابه فجاء - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة فسألها عنه ، فأخبرته فجاء إليه فوجده نائما ، وقد أعلاه الغبار فصار ، ينفضه عنه ، ويقول قم يا أبا تراب ، ويكفي مسوغا لكنيته هذه الحالة التي رآه عليها ، وقوله فسماه بعمله إلخ كلام في غاية السقوط لا يرضى بنسبته إليه إلا عديم التمييز فكيف وهو يزعم أنه بلغ رتبة علية من العلم لم يبلغها غيره نعم بلغها في الفلسفة وعلوم الأوائل التي لا تزيد إلا ضلالا وبوارا . انتهى كلامه وظهر مرامه .
وأنت ترى أن صاحب القيل ، وهو العصام الجليل بما صدر عنه ، وما ظهر منه لا يستحق ضلالة ، ولا يستوجب جهالة مع أن مرتبته في العلوم العربية مما لا يخفى على أرباب الكمالات الأدبية ، وكذا ما يتعلق بالدقائق التفسيرية ، وغير ذلك من الحقائق العلمية مما كان يعجز عن فهم كلامه المعترض في بيان مرامه ، والذي لاح لي في معناه على ما قصده في مبناه أن مراد العصام ليس إثبات أنه عليه السلام كان ينام على التراب بل غرضه أنه ما كان يختار الفراش رعاية لحظ نفسه بل مراعاة للغير من الزوجة ، ودفعا للحرج عن الأمة ، وإلا فغالب الظن أنه كان يختار النوم على الثرى مخالفة للهوى ، وزهدا في الدنيا ، وتواضعا للمولى ، وتذكرا لمقام البلى ، ولذا أعجبه صنع المرتضي ، وكناه به مدحا لحاله ، وحسن فعاله ، ولذا كان يعجب عليا هذه التكنية أحسن من أبي الحسن ثم قول العصام ، وليس معناه إلخ معناه أنه ليس سبب التكنية مجرد إلصاق التراب ببدنه المبارك بل الموجب لها إذلال النفس عن إعجابها ، وغرورها وحجابها وردها إلى أصلها [ ص: 157 ] حياة وفضلها مماتا ، مع ما فيه من التواضع لله ، ومن تواضع لله رفعه الله ، فلذا رفعه سيد الأولين والآخرين وأخذه بيده ونفض عنه التراب ، ولقبه وكناه به تذكرة للحالة الحسنة والخصلة المستحسنة ، وهذا كله في غاية من التحقيق ، ونهاية من التدقيق عند المصنف دون المتعسف ، ومما يؤيد هذا المقام ، ويزيد الوضوح في المرام بقية الأحاديث الواردة على ما ذكره العلماء الأعلام .
منها ما أخرجه من طريق ابن ماجه عن ابن نمير هشام بلفظ ، والضجاع بكسر الضاد المعجمة بعدها جيم ما يرقد عليه . كان ضجاع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أدما حشوه ليف
ومنها ما في البخاري . أنه صلى الله تعالى عليه وسلم رقد على حصير قد أثر في جنبه ، وتحت رأسه مرقعة من أدم حشوها ليف
ومنها ما أخرجه البيهقي عن عائشة أيضا عائشة والله لو شئت أجرى الله معي جبال الذهب والفضة . قالت : دخلت علي امرأة فرأت فراش رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عباءة مثنية فبعثت إلي بفراش حشوه صوف فدخل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فرآه فقال : رديه يا
ومنها ما أخرجه أبو الشيخ في أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - من طريق عن الشعبي مسروق عن عائشة بلفظ الأنصار فرأت فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عباءة مثنية فانطلقت ، وبعثت إلي بفراش فيه صوف فدخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ما هذا قلت أن فلانة الأنصارية دخلت علي فرأت فراشك فبعثت إلي بهذا ، فقال : رديه فأبيت فلم أرده وأعجبني أن يكون في بيتي قالت : حتى قال لي ذلك ثلاث مرات فقال : رديه يا عائشة ، فوالله لو شئت لأجرى الله لي جبال الذهب والفضة ، قالت : فرددته . دخلت علي امرأة من
ومنها ما ورد عند أحمد من حديث وأبي داود الطيالسي ابن مسعود . اضطجع النبي - صلى الله عليه وسلم - على حصير فأثر في جنبه فقيل له ألا نأتيك بشيء يقيك منه فقال : ما لي والدنيا إنما أنا والدنيا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها
وأخرج أبو الشيخ لفظه فقلنا يا رسول الله ألا تؤذننا نبسط تحتك ألين منه فقال ما لي وللدنيا إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب سار في يوم صائف فقال تحت شجرة ثم راح وتركها
ومنها ما في عن البخاري قال : ابن عباس - رضي الله عنه - جئت فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مشربة أي : غرفة وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف وإن عند رجليه قرظا مصبوبا أي ما يدبغ وعند رأسه أهب معلقة أي : جلود فبكيت فقلت يا رسول الله إن عمر بن الخطاب كسرى وقيصر فيما هما فيه ، وأنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أما ترضى أن تكون لهما الدنيا ولنا الآخرة . قال
وقد ذكر البغوي هذا الحديث الأخير في تفسير قوله سبحانه لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد إلى قوله سبحانه وما عند الله خير للأبرار وفي رواية صحيحة أيضا أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : أولئك عجلت لهم طيباتهم ، وهي وسيلة الانقطاع ، وإنا قوم أخرت لنا طيباتنا في آخرتنا ، وفي رواية بزيادة أنه لم يكن عليه إزار ، وأنه كان مضطجعا على خصفة ، وأن بعضه لعلى التراب ولم يكن بها غير [ ص: 158 ] خصفة ، ووسادة من ليف ، ونحو صاع من شعير .
ومنها ما رواه عن الطبراني ابن مسعود عبد الله قال : يا رسول الله ، كسرى وقيصر ينامون على الديباج والحرير ، وأنت نائم على هذا الحصير قد أثر بجنبك ، فقال : لا تبك ، فإن لهم الدنيا ولنا الآخرة . أنه دخل عليه - صلى الله عليه وسلم - في غرفة كأنها بيت حمام ، وهو نائم على حصير أثر في جنبه فبكى ، فقال : ما يبكيك يا
ومنها ما رواه في صحيحه ابن حبان أن أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - دخلا عليه - صلى الله عليه وسلم - فإذا هو نائم على سرير له مزمل بالبردي ، وهو نبت معروف عليه كساء أسود حشوه بالبردي فلما رآهما استوى جالسا فنظراه فإذا أثر السرير في جنبه فقالا : يا رسول الله ما يؤذيك خشونة ما نرى في فراشك وسريرك ، وهذا كسرى وقيصر على فراش الحرير ، والديباج فقال - صلى الله عليه وسلم - لا تقولا هذا ، فإن فراش كسرى وقيصر في النار ، وإن فراشي ، وسريري هذا عاقبته إلى الجنة ثم رأيت في شرح السنة عن أنس قال : ، الحديث ، فهذا أصل أصيل رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يركب الحمار العري ، ويجيب دعوة المملوك ، وينام على الأرض ويجلس على الأرض ، ويأكل على الأرض للعصام ، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ في مقام المرام