25 - أمية بن أبي الصلت :
واسم أبي الصلت ربيعة بن عوف ، كان أمية قد قرأ الكتب المتقدمة ، ورغب عن عبادة الأوثان ، وأخبر أن نبيا قد أظل زمانه ، [وأنه سيخرج] ، وكان يؤمل أن يكون هو ذلك النبي ، فلما بلغه خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر به حسدا له ، ولما أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم شعره ، قال: "آمن لسانه وكفر قلبه" .
أخبرنا محمد بن ناصر ، قال: أخبرنا أبو عبد الله ، هبة الله بن أحمد بن محمد الموصلي ، قال: حدثنا أبو القاسم بن عبد الملك بن محمد بن بشران ، قال: أخبرنا أبو سهل أحمد بن محمد بن زياد ، قال: حدثنا أحمد بن يحيى بن ثعلب ، قال: أخبرنا [ ص: 143 ] عبد الله بن شبيب ، قال: حدثني محمد بن مسلمة بن إبراهيم بن هشام المخزومي ، قال: حدثني إسماعيل بن الطريح بن إسماعيل الثقفي ، قال: حدثني أبي ، عن أبيه ، عن عن مروان بن الحكم ، عن معاوية بن أبي سفيان ، قال: أبي سفيان بن حرب ،
خرجت أنا وأمية بن أبي الصلت تجارا إلى الشام ، قال: فكلما نزلنا منزلا أخرج أمية سفرا يقرأه علينا ، فكنا كذلك حتى نزلنا بقرية من قرى النصارى فرأوه [وعرفوه] وأهدوا له وذهب معهم إلى بيعهم ، ثم رجع في وسط النهار فطرح ثوبيه واستخرج ثوبين أسودين فلبسهما ، ثم قال: يا أبا سفيان ، هل لك في عالم من علماء النصارى إليه تناهى علم الكتب تسأله عما بدا لك؟ قلت: لا ، فمضى هو وجاءنا بعد هدأة من الليل ، فطرح ثوبيه ثم انجدل على فراشه ، فوالله ما نام ولا قام حتى أصبح ، فأصبح كئيبا حزينا ما يكلمنا ولا نكلمه ، فسرنا ليلتين على ما به من الهم ، فقلت له: ما رأيت مثل الذي رجعت به من عند صاحبك؟ قال: لمنقلبي ، قلت: هل لك من منقلب؟ قال: أي والله لأموتن ولأحاسبن ، قلت: فهل أنت قابل أماني على ما قلت على أنك لا تبعث ولا تحاسب ، فضحك ، وقال: بلى والله لتبعثن ولتحاسبن وليدخلن فريق في الجنة وفريق في النار ، قلت: ففي أيهما أنت أخبرك صاحبك؟ قال: لا علم لصاحبي بذلك في ولا في نفسه ، فكنا في ذلك ليلنا يعجب منا ونضحك منه حتى قدمنا غوطة دمشق .
فبعنا متاعنا وأقمنا شهرين ثم ارتحلنا حتى نزلنا قرية من قرى النصارى ، فلما رأوه جاءوه ، وأهدوا له ، وذهب معهم إلى بيعهم حتى جاءنا مع نصف الليل ، فلبس ثوبيه الأسودين ، فذهب حتى جاءنا بعد هدأة من الليل ، فطرح ثوبه ثم رمى بنفسه على فراشه ، فوالله ما نام ولا قام فأصبح مبثوثا حزينا لا يكلمنا ولا نكلمه .
فرحلنا فسرنا ليالي ، ثم قال: يا صخر حدثني عن عتبة بن ربيعة ، أيجتنب [ ص: 144 ] المحارم والمظالم؟ قلت: إي والله ، قال: ويصل الرحم ويأمر بصلتها؟ قلت: إي والله ، قال: فهل تعلم قريشا أشرف منه؟ قلت: لا ، قال: أومحوج هو؟ قلت: لا بل هو ذو مال كثير ، قال: كم أتى عليه من السن؟ قلت: هو ابن سبعين سنة قد قاربها ، قال: والسن والشرف أزريا به؟ قلت: لا والله بل زاده خيرا ، قال: هو ذاك ، ثم قال: إن الذي رأيت بي [البارحة] ، إني جئت هذا العالم فسألته عن هذا الذي ننتظر ، فقال: هو رجل من العرب من أهل بيت تحجه العرب ، قال: هو من إخوانكم ومن جيرانكم من قريش ، فأصابني شيء ما أصابني مثله ، إذ خرج من يدي فوز الدنيا والآخرة ، وكنت أرجو أن أكون أنا هو ، فقلت: فصفه لي ، فقال: رجل شاب حين دخل في الكهولة بدو أمره ، إنه [يجتنب المحارم والمظالم ، ويصل الرحم ويأمر بصلتها ، وهو محوج] كريم الطرفين متوسط في العشيرة ، وأكثر جنده من الملائكة ، قلت: وما آية ذلك؟ قال: رجفت الشام منذ هلك عيسى ابن مريم ثمانين رجفة ، كلها فيها مصيبة ، وبقيت رجفة عامة فيها مصيبة يخرج على أثرها ، فقلت: هذا هو الباطل ، لئن بعث الله رسولا لا يأخذه إلا منا شريفا .
قال أمية: والذي يحلف به إنه لهكذا ، فخرجنا حتى إذا كان بيننا وبين مكة ليلتان أدركنا راكب من خلفنا ، فإذا هو يقول: أصابت الشام بعدكم [رجفة] دمرت أهلها فيها وأصابهم مصائب عظيمة ، فقال أمية: كيف ترى يا أبا سفيان؟ فقلت: والله ما أظن صاحبك إلا صادقا .
وقدمنا مكة ، ثم انطلقت حتى جئت أرض الحبشة تاجرا ، فمكثت بها خمسة أشهر ، ثم قدمت مكة فجاءني الناس يسلمون [علي] وفي آخرهم محمد صلى الله عليه وسلم ، وهند تلاعب صبيانها ، فسلم علي ورحب بي وسألني عن سفري ومقدمي ثم انطلق .
فقلت: والله إن هذا الفتى لعجب ، ما جاءني أحد من قريش له معي بضاعة إلا سألني [ ص: 145 ] عنها وما بلغت ، والله إن له معي بضاعة ما هو أغناهم عنها وما سألني عنها ، فقالت هند: أوما علمت شأنه ، فقلت وقد فزعت: وما شأنه؟ قالت: يزعم أنه رسول الله ، فذكرت قول النصراني ووجمت ، فخرجت فلقيته ، فقلت: إن بضاعتك قد بلغت كذا وكذا ، فأرسل فخذها فلست آخذ منك ما آخذ من قومك . فأبى وأرسل فأخذها وأخذت منه ما كنت آخذ من غيره ، فلم أنشب أن خرجت تاجرا إلى اليمن ، فقدمت الطائف فنزلت على أمية بن أبي الصلت ، فقلت: يا أبا عثمان ، هل تذكر حديث النصراني؟ قال: نعم ، قلت: فقد كان [ما قال] ، قال: ومن؟ قلت: محمد بن عبد الله ، قال: ابن عبد المطلب؟ قلت: ابن عبد المطلب ، فتصبب عرقا ، [قال:] وقال: إن ظهر وأنا حي [لأطلبن من] الله في نصره عذرا ، فعدت من اليمن فنزلت على أمية بالطائف ، فقلت: قد كان من أمر الرجل ما بلغك فأين أنت منه؟ قال: والله ما كنت لأومن برسول من غير ثقيف أبدا ، فأقبلت إلى مكة فوجدت أصحابه يضربون ويقهرون ، فقلت: فأين جنده من الملائكة ودخلني ما يدخل الناس من النفاسة .
وروى أن الزهري أمية بن أبي الصلت كان يقول:
ألا رسول لنا منا يخبرنا ما بعد غايتنا من رأس مجرانا
قال: ثم خرج أمية إلى البحرين ، فأقام بالبحرين ثمان سنين ، ثم قدم الطائف فقال لهم: ما يقول محمد بن عبد الله؟ قالوا: يزعم أنه نبي ، فهو الذي كنت تتمنى ، فخرج حتى قدم عليه مكة فلقيه ، فقال: يا ابن عبد المطلب ، ما هذا الذي تقول؟ قال: "أقول إني رسول الله ، وأن لا إله إلا الله" ، قال: فإني أريد أن أكلمك ، فعدني غدا ، قال: "فوعدك غدا" ، قال: أفتحب أن آتيك وحدي أو في جماعة من أصحابي ، وتأتي وحدك أو في جماعة من أصحابك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي ذلك شئت" ، قال: إني آتيك في جماعة . [ ص: 146 ]قال: فلما كان من الغد غدا أمية في جماعة من قريش ، وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه حتى جلسوا في ظل البيت ، قال: فبدأ أمية فخطب ثم سجع ثم أنشد الشعر حتى إذا فرغ ، قال: أجبني يا ابن عبد المطلب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين حتى إذا فرغ منها وثب أمية [يجر برجليه] إلى راحلته . قال: وتبعته قريش تقول: ما تقول يا أمية؟ قال: أشهد أنه على الحق ، قالوا: فهل تتبعه؟ قال: حتى أنظر في أمره . ثم خرج أمية إلى الشام ، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فلما قتل أهل بدر ، أقبل من الشام حتى نزل بدرا . ثم ترجل يريد رسول الله ، فتصور له إبليس ، فقال له: يا أبا الصلت ما تريد؟ قال: أريد محمدا ، قال: تدري من في القليب؟ قال: فيه عتبة بن ربيعة وشيبة ، ابنا الخالة ، فجدع أذني ناقته وقطع ذنبها ، ثم وقف على القليب يقول:
ماذا ببدر فالعقنـ ـقل من مرازبة جحاجح
لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما لا مال يغنيني ولا عشيرة تحميني .
فأقبل الطائران حتى وقع أحدهما على بطنه فنقر صدره فأخرج قلبه ثم شق قلبه ، فقال الطائر الأعلى: أوعى ، قال: وعى ، قال: أقبل ، قال: أبى ، قال: فرده ثم طار ، فاتبعهما أمية ببصره ، فقال:
لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما لا بريء فأعتذر ولا ذو عشيرة فأنتصر .
فأقبل الطائر فوقع على صدره فنقر نقرة فأخرج قلبه فشقه ، فقال الطائر الأعلى: أوعى ، قال: وعى ، قال: أفقبل ، قال: أبى ، فرده ثم طار ، فاتبعهما أمية ببصره ، فقال:
لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما بالنعم محمود وبالذنب محصود .
فأقبل الطائر فوقع على صدره فنقر صدره نقرة شقته ثم أخرج قلبه ، فقال الطائر الأعلى: أوعى ، قال: وعى ، قال: أقبل ، قال: أبى ، فرده ثم طار ، فاتبعهما أمية ببصره ، فقال:
لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما
إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك لا ألما
ليتني كنت قبل ما قد بدا لي في قلال الجبال أرعى الوعولا
فاجعل الموت بين عينيك واحذر غولة الدهر إن للدهر غولا
وروى عن الزهري عبيد الله بن عبد الله ، عن : أن ابن عباس وازعة بنت أبي الصلت الثقفي جاءته فسألها عن قصة أخيها أمية ، فقالت: قدم أخي من سفر ، فوثب على سريري ، فأقبل طائران فسقط أحدهما على صدره ، فشق ما بين صدره إلى ثنيته فانتبه ، فقلت: يا أخي هل تجد شيئا؟ قال: لا والله إلا توصيبا .
قال مؤلف الكتاب: ومعنى قولها: "وثب على سريري" اتكأ ، أي نام ، وهي لغة حميرية ، يقال: وثب الرجل إذا قعد . والتوصيب يجده الإنسان في نفسه .
أخبرنا قال: أخبرنا ابن ناصر ، أبو عبد الله الموصلي ، قال: أخبرنا أبو القاسم بن بشران ، قال: حدثنا أبو سهل بن زيد ، قال: أخبرنا إسماعيل بن إسحاق القاضي ، قال: حدثنا العلاء بن الفضل بن عبد الملك ، قال: حدثني محمد بن إسماعيل بن الطريح بن إسماعيل الثقفي ، عن أبيه ، عن جد أبيه قال: شهدت أمية بن أبي الصلت حين حضرته الوفاة فأغمي عليه طويلا ، فرفع رأسه ونظر إلى باب البيت فقال:
لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما لا قوي فأنفر ولا بريء فأعتذر .
ثم أغمي عليه طويلا ثم أفاق ، فرفع رأسه ونظر إلى باب البيت فقال:
لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما لا عشيرتي تحميني ولا ذو مال يفديني .
ثم أغمي عليه طويلا ثم أفاق فرفع رأسه ، فقال:
كل حي وإن تطاول دهر صائر مرة إلى أن يزولا
ليتني كنت قبل ما قد بدا لي في قلال الجبال أرعى الوعولا
أخبرنا قال: أخبرنا أبو منصور القزاز ، أحمد بن علي بن ثابت ، قال: أخبرنا الحسين بن محمد الخلال ، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن عمران ، قال: حدثني خالي إبراهيم بن أحمد ، قال: أخبرنا أحمد بن فرج المقرئ ، قال: حدثني يعقوب بن السائب ، قال:
كان أمية بن أبي الصلت جالسا [يشرب] ، فجاء غراب فنعب [نعبة] ، فقال له أمية: لفيك التراب ، ثم نعب أخرى ، فقال له: بفيك التراب ، ثم أقبل على أصحابه ، فقال: تدرون ما قال هذا الغراب ، زعم أني أشرب هذا الكأس [ثم أتكئ] فأموت ، ثم نعب النعبة الأخرى ، فقال: يقول: وآية ذلك أني أقع على هذه المزبلة ، فأبتلع عظما ثم أقع فأموت . قال: فوقع الغراب على المزبلة فابتلع عظما فمات . فقال أمية: أما هذا فقد صدقني عن نفسه ، ولكن لا نظرت أيصدقني عن نفسي ، قال: ثم شرب الكأس ، ثم اتكأ فمات .
أخبرنا علي بن عبد الله الزاغوني ، قال: أخبرنا عبد الله الزاغوني ، قال: أخبرنا عبد الصمد بن المأمون ، قال: أخبرنا ابن جبانة ، قال: أخبرنا يحيى بن صاعد ، قال: أخبرنا قال: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ، أبو أسامة ، قال: أخبرنا حاتم بن أبي صغيرة ، عن عن سماك بن حرب ، عمرو بن نافع ، عن الشريد الهمذاني ، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، فبينما أنا أمشي ذات يوم إذ وقع ناقة خلفي ، فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: "الشريد" ، قلت: نعم ، قال: "ألا أحملك" ، قلت: بلى ، وما في إعياء ولا لغوب ولكني أردت البركة في ركوبي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأناخ فحملني ، فقال: أمعك من سفر أمية بن أبي الصلت؟ قلت: نعم ، قال: "هات" ، فأنشدته ، قال: أظنه مائة بيت ، قال: وقال: عند الله علم أمية بن أبي الصلت ، عند الله علم أمية بن أبي الصلت . [ ص: 150 ]
وأخبرنا عمر بن أبي الحسن البسطامي ، قال: أخبرنا أحمد بن أبي المنصور ، قال: أخبرنا علي بن أحمد الخزاعي ، قال: أخبرنا قال: أخبرنا الهيثم بن كليب ، قال: أخبرنا الترمذي ، قال: أخبرنا أحمد بن منيع ، مروان بن معاوية ، عن عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي ، عن عمر بن الشريد ، عن أبيه ، قال: . انفرد بإخراجه كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم فأنشدته مائة بيت من شعر أمية بن أبي الصلت ، كلما أنشدته بيتا قال: "هيه" حتى أنشدته مائة - يعني بيتا - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن كاد ليسلم" في صحيحه . مسلم
وذكر في كتاب "صفايا حكم الأشعار" ، قال: قد صح بين علماء الناس بالشعر وأيام العرب ، أن مما أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم من شعر أبو الحسين بن المنادي أمية بن أبي الصلت قوله:
لك الحمد والنعماء والملك ربنا
وقوله:
سبحان من سبحت طير السماء له
وقوله:
إله محمد حقا إلهي
وغير ذلك ، قال: وكان أمية يحكي آثار قدرة الله تعالى وما ينتهي إليه أمر الدنيا من الزوال والمعاد ، وإلى الخلود في الجنة والنار ، وتسخير الشمس والقمر وغير ذلك على ما كان قد قرأه في الكتب المتقدمة ، وكان يتوهم أن نبيا سيبعث فيكون هو ذلك ، فلما بلغه خروج نبينا محمد صلى الله عليه وسلم انقمع وحسده .
قال أبو الحسين: فأخبرني جماعة منهم: أبو عبد الله محمد بن موسى الفراء ، وجعفر بن موسى النحوي ، وغيرهما عمن حدثهما عن أبي عبيدة معمر بن المثنى وغيرهما قالوا: والأصمعي
[ ص: 151 ]
إن أمية بن أبي الصلت ، قال هذه القصيدة في أول المبعث يذكر فيها دين الإسلام ونبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وهي:
لك الحمد والنعماء والملك ربنا ولا شيء أعلى منك جدا وأمجد
مليك على عرش السماء مهيمن لعزته تضوي الوجوه وتسجد
عليه حجاب النور والنور حوله وأنهار نور فوقه تتوقد
فلا بصر يسمو إليه بطرفه ودون حجاب النور خلق مؤيد
[ملائكة أقدامهم تحت أرضه وأعناقهم فوق السماوات تسجد]
فمن حامل إحدى قوائم عرشه بكفيه لولا الله كلوا وبلدوا
قيام على الأقدام عانون تحته فرائصهم من شدة الخوف ترعد
وبسط صفوف ينظرون قضاءه مصيخون بالأسماع للوحي ركد
أميناه روح القدس جبريل فيهم وميكال ذو الروح القوي المسدد
وحراس أبواب السموات دونهم قيام عليها بالمقاليد رصد
فنعم العباد المصطفون لأمره ومن دونهم جند كثيف مجند
[ملائكة لا يفتروا عن عبادة كروبية منهم ركوع وسجد]
فساجدهم لا يرفع الدهر رأسه يعظم ربا فوقه ويمجد
وراكعهم يحنو له الظهر خاشعا يردد آلاء الإله ويحمد
[ومنهم ملف في جناحيه رأسه يكاد بذكر ربه يتفصد]
من الخوف لا ذو سآمة من عبادة ولا هو من طول التعبد يحمد
[ ص: 152 ] وساكن أقطار بأرجاء مصعد وذو الغيب والأرواح كل معبد
ودون كثيف الماء في غامض الهوا ملائكة تنحط فيها وتقصد
وبين طباق الأرض تحت بطونها ملائكة بالأمر فيها تردد
فسبحان من لا يقدر الخلق قدره ومن هو فوق العرش فرد موحد
ومن لم ينازعه الخلائق ملكه وإن لم يفرده العباد يفرد
مليك السموات الشداد وأرضها وليس بشيء عن هواه تأود
وسبحان ربي خالق النور لم يلد ولم يك مولودا بذلك أشهد
وسبحانه من كل إفك وباطل ولا والد ذو العرش أم كيف يولد
هو الله باري الخلق والخلق كلهم إماء له طوعا جميعا وأعبد
هو الصمد الحي الذي لم يكن له من الخلق كفؤ قد يضاهيه مضدد
وأنى يكون الخلق كالخالق الذي يدوم ويبقى والخليقة تنفد
وليس بمخلوق على الدهر جده ومن ذا على مر الحوادث يخلد
ويفنى ولا يبقى سوى القاهر الذي يميت ويحيي دائبا ليس يمهد
تسبحه الطير الحوائج في الخفا وإذ هي في جو السماء تصعد
ومن خوف ربي سبح الرعد فوقنا وسبحه الأشجار والوحش أبد
وسبحه البنيان والبحر زاخر وما ضم من شيء وما هو متلد
ألا أيها القلب المقيم على الهوى إلى أي حين منك هذا التمرد
عن الحق كالأعمى المحيط عن الهوى وقد جاءك النجد النبي محمد
بنور على نور من الحق واضح دليل على طرق الهدى ليس يخمد
ترى فيه أبناء القرون التي خلت وأخبار غيب في القيامة توجد
وحالات دنيا لا تدوم لأهلها وفيها منون ريبها متردد
ألا إنما الدنيا بلاغ وبلغة وبينا الفتى فيها مهيب مسود
إذ انقلبت عنه وزال نعيمها فأصبح من ترب القبور يوسد
وفارق روحا كان بين حياته وجاور موتى ما لهم متبدد
فأي فتى قبلي رأيت مخلدا له في قديم الدهر ما يتورد
[ ص: 153 ] ومن يبتليه الدهر منه بعثرة فيكبو لها والنائبات تردد
لمن تسلم الدنيا وإن ظن أهلها نصيحتها والدهر قد يتجدد
ليوم وأقوام قد انكفأت بهم دهور وأيام ترافد عود
ألست ترى فيما مضى لك عبرة فمه لا تكن يا قلب أعمى تلدد
وقد جاء ما لا شك فيه من الهدى وليس يرد الحق إلا مفند
وكن خائفا للموت والبعث بعده ولا تك ممن غره اليوم والغد
فإنك في الدنيا غرور لأهلها وفيها عدو كاشح الصدر يوقد
من الحقد نيران العداوة بيننا لئن قال ربي للملائكة اسجدوا
لآدم لما أكمل الله خلقه فخروا له طوعا سجودا وركد
فقال عدو الله للكبر والشقا أطين على نار السموم يسود
فأخرجه العصيان من خير منزل فذاك الذي في سالف الدهر يحقد
علينا ولا يألو خبالا وحيلة ليوردنا منها الذي يتورد .
جحيما تلظى لا تفتر ساعة ولا الحر منها آخر الدهر يبرد
فما لك في الشيطان والناس أسوة إذا ما صليت النار بل أنت أبعد
هو القائد الداعي إلى النار جاهدا ليوردنا منها الذي يتورد
وما لك من عذر بطاعة فاسق ولا بلظى نار عملت لها يد
إله محمد حقا إلهي وديني دينه غير انتحال
إله العالمين وكل أرض ورب الراسيات من الجبال
بناها وابتنى سبعا شدادا بلا عمد يزين ولا دجال
وسواها وزينها بنور من الشمس المضيئة والهلال
ومن شهب تلألأ في دجاها مراميها أشد من النصال
وأنشأ المزن تدلج بالروايا خلال الرعد مرسلة الغوال
ليسقي الحرث والأنعام منها سجال الماء حالا بعد حال
وشق الأرض فانبجست عيونا وأنهارا من العذب الزلال
وبارك في نواحيها وزكى بها ما كان من حرث ومال
وأجرى الفلك في تيار موج تفيض على المداليج الثقال
[ ص: 154 ] وكل معمر لا بد يوما وذي دنيا يصير إلى زوال
ويفنى بعد جدته ويبلى سوى الباقي المقدس ذي الجلال
كأنا لم نعش إلا قليلا إذا كنا من الهام البوالي
وصرنا في مضاجعنا رميما إلى يوم القيامة ذي الوبال
ونادى مسمع الموتى فجئنا من الأجداث كالشنن العجال
وأعطى كل إنسان كتابا مبينا باليمين وبالشمال
ليقرأ ما تقارف ثم يكفا حسابا نفسه قبل السؤال
وقام القسط بالميزان عدلا كما بان الخصيم من الجدال
فلا إنسان بين الناس يرجى [ولا رحم تمت إلى وصال
سوى التقوى ولا موت يرجى] سوى الرب الرحيم من الموالي
وسيق المجرمون وهم عراة إلى دار المقامع والنكال
إلى نار تحش بصم صخر وما الأوصال من أهل الضلال
إذا نضجت جلودهم أعيدت كما كانت وعادا في سفال
ونادوا ويلنا ويلا طويلا على ما فاتنا أخرى الليالي
فهم متلاعنون إذا تلاقوا بها لعنا أشد من القتال
ونادوا مالكا ودعوا ثبورا وعجوا من سلاسلها الطوال
إذا استسقوا هناك سقوا حميما على ما في البطون من الأكال
شرابهم مع الزقوم فيها ضريع يجتلي عقد الخبال
فليسوا ميتين فيستريحوا . وكلهم لحر النار صالي
وحل المتقون بدار صدق وعيش ناعم تحت الظلال
ظلال بين أعناب ونخل وبنيان من الفردوس عالي
لهم ما يشتهون وما تمنوا من اللذات فيها والجمال
ومن إستبرق يكسون فيها عطايا جمة من ذي المعالي
ومن خدم بها يسقون منها كدر خالص الألوان غالي
[ ص: 155 ] وأشربة من العسل المصفى ومن لبن ومن ماء السجال
وكأس لذة لا غول فيها من الخمر المشعشعة الحلال
على سرر مقابلة عوال معارجها أذل من البغال
صفوف متكون لدى عظيم بكفيه الجزيل من النوال