منهم: حديث ابن ملك متزهد
أخبرنا محمد بن عبيد الله البيضاوي ، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار ، قال: أخبرنا القاضي أبو الحسين بن أخي ميمي ، قال: أخبرنا أبو علي بن صفوان ، قال: [ ص: 185 ] أخبرنا أبو بكر القرشي ، قال: حدثني محمد بن الحسين ، قال: أخبر [ مروان ] معاوية بن عمرو ، قال: أخبرنا أبو بكر العجلي ، قال: [ أخبرنا ] أبو عقيل الدورقي ، عن بكر بن عبد الله المزني ، قال: كان رجل من ملوك بني إسرائيل قد أعطي طول عمر وكثرة مال وكثرة أولاد ، وكان أولاده إذا كبر أحدهم لبس [ ثياب ] الشعر ، ولحق بالجبال ، وأكل من الشجر ، وساح في الأرض حتى يأتيه الموت ، ففعل ذلك جماعتهم حتى تتابع بنوه على ذلك .
فأصاب ولدا بعد كبر ، فدعا قومه وقال: إني أصبت ولدا بعد ما كبرت ، وترون شفقتي عليكم ، وإني أخاف أن يتبع [ هذا ] سنة إخوته ، وأنا أخاف إن لم يكن عليكم أحد من ولدي بعدي ، فبنوا له حائطا فرسخا في فرسخ ، فكان فيه دهرا من دهره .
ثم ركب يوما فإذا عليه حائط مصمت ، فقال: إني أحسب أن خلف هذا الحائط أناسا وعالما آخر ، فأخرجوني أزدد علما وألقى الناس . فقيل ذلك لأبيه ، ففزع وخشي أن يتبع سنة إخوته ، فقال: اجمعوا عليه كل لهو ولعب ، ففعلوا ذلك .
ثم ركب في السنة الثانية ، فقال: لا بد من الخروج ، فأخبر بذلك الشيخ ، فقال: أخرجوه ، فحمل على عجلة وكلل بالزبرجد والذهب ، وصار حوله حافتان من الناس . فبينا هو يسير إذا هو برجل مبتلى ، فقال: ما هذا ؟ قالوا: رجل مبتلى ، فقال: أيصيب ناسا دون ناس أو كل خائف له ؟ قالوا: كل خائف له ، قال: وأنا فيما أنا فيه من السلطان ؟ قالوا: نعم ، قال: أف لعيشكم هذا ، [ هذا ] عيش كدر . فرجع مغموما [ ص: 186 ] محزونا ، فقيل لأبيه ، فقال: انشروا عليه كل لهو وباطل حتى تنزعوا من قلبه هذا الحزن والغم .
فلبث حولا ، ثم قال: أخرجوني ، فأخرج على مثل حاله الأول ، فبينا هو يسير إذا هو برجل قد أصابه الهرم ولعابه يسيل من فيه ، فقال: ما هذا ؟ قالوا: رجل قد هرم ، قال: يصيب ناسا دون ناس ، أو كل خائف له إن هو عمر ؟ قالوا: كل خائف [ له ] ، قال: أف لعيشكم هذا ، [ هذا ] عيش لا يصفو [ لأحد ] . فأخبر بذلك أبوه ، فقال: احشروا عليه كل لهو وباطل . فحشروا عليه . فمكث حولا ثم ركب على مثل حاله .
فبينا هو يسير إذا هو بسرير تحمله الرجال على عواتقها ، فقال: ما هذا ؟ قالوا: رجل مات ، قال لهم: وما الموت ؟ ائتوني به ، فأتوه به ، فقال: أجلسوه ، فقالوا: إنه لا يجلس ، قال: كلموه ، قالوا: إنه لا يتكلم . قال: فأين تذهبون به ، قالوا: ندفنه تحت الثرى ، قال: فيكون ماذا بعد هذا ؟ قالوا: الحشر ، قال: وما الحشر ؟ قالوا: يوم يقوم الناس لرب العالمين حفاة عراة مكشفي الرءوس ، فيجزى كل واحد على قدر حسناته وسيئاته ، قال: ولكم دار غير هذه تجازون فيها ؟ قالوا: نعم ، فرمى بنفسه من الفرس وجعل يعفر وجهه في التراب وقال لهم: من هذا كنت أخشى ، كاد هذا يأتي علي ، وأنا لا أعلم به ، أما ورب من يعطي ويحشر ويجازي ، إن هذا آخر الدهر بيني وبينكم ، فلا سبيل لكم علي بعد هذا اليوم ، فقالوا: لا ندعك حتى نردك إلى أبيك .
[ ص: 187 ] قال: فردوه إلى أبيه ، وقد كاد ينزف دمه ، فقال له: يا بني ، ما هذا الجزع ؟ قال: جزعي ليوم يجازى فيه الصغير والكبير على ما عملا من خير وشر . فدعا بثياب من الشعر فلبسها ، وقال: إني عازم في الليل أن أخرج . فلما كان [ في ] نصف الليل ، أو قريبا منه خرج ، فلما خرج من باب القصر ، قال: اللهم إني أسألك أمرا ليس لي منه قليل ولا كثير ، وقد سبقت فيه المقادير . إلهي لوددت أن الماء كان في الماء ، وأن الطين كان في الطين ، ولم أنظر بعيني إلى الدنيا نظرة واحدة .
قال بكر بن عبد الله : فهذا رجل خرج من ذنب [ واحد ] لا يعلم ما عليه فيه ، فكيف بمن يذنب وهو يعلم بما عليه ، ولا يتحرج ولا يجزع ولا يتوب .