[ ص: 165 ] ذكر المقتدي بأمر الله بيعة
قد ذكرنا أنه لما احتضر القائم كتب ولاية العهد فلما توفي استخلف للمقتدي ، يوم الجمعة ثالث عشر شعبان هذه السنة ، ولقب: المقتدي بالمقتدي بأمر الله ، وجلس في دار الشجرة بقميص أبيض ، وعمامة لطيفة بيضاء ، وطرحة قصب درية ، ودخل الوزير فخر الدولة وعميد الدولة ، واستدعي مؤيد الملك بن النظام ، والنقيبان طراد العلوي ، وقاضي القضاة الدامغاني ، ودبيس ، وأبو طالب الزينبي ، وابن رضوان ، وابن جردة ، ووجوه الأشراف ، والشهود ، والمتقدمون وبايعوه ، وكان أول من بايعه الشريف أبو جعفر ، وذاك أنه لما غسل القائم بايعه حينئذ قبل الناس ، وقال الشريف أبو جعفر: لما أن بايعته أنشدته:
إذا سيد منا مضى قام سيد
ثم ارتجز على تمامه فقال هو:
قؤول بما قال الرجال فعول
وبايعه مع الجماعة أبو إسحاق ، وأبو نصر بن الصباغ ، وأبو محمد التميمي ، وبرز فصلى بالناس العصر ، وبعد ساعة حمل التابوت على الطيار ، يبكون من غير صراخ ، وصلى عليه فكبر أربعا ، ودفن في حجرته التي كانت برسم خلوته ، وكان من رجال المقتدي بني العباس ، له همة عالية وشجاعة وهيبة ، وفي زمانه قامت حشمة الدولة .
ولما استفحل أمر تتش بعد وفاة أخيه ملك شاه ، واشتدت شوكته ، وكثرت عساكره ، واستولى على ديار بكر وبلاد العرب كاتب يسأله أن يقيم له الخطبة ، وخلط السؤال بنوع تهديد ، فأمر المقتدي أن يكتب له كتاب فيه خشونة ، وكانت فيه: صلح أن يكون خطابك في الخطبة إذا حصلت الدنيا بحكمك ، وخزائن الأموال المقتدي بأصفهان وولايتها تحت يدك ، والبلاد بأسرها في قبضتك ، ولم يبق من أولاد أخيك من يخالفك ، ثم تسأل حينئذ تشريفك بالخطبة وتأهيلك للخدمة ، فأما في هذه الحال فلا سبيل إلى ما التمسته ، ولا طريق إلى ما تحاوله ، فلا تعد حد العبيد فيما تنهيه وتسطره ، والاتباع [ ص: 166 ] فيما تورده وتصدره ، وليكن خطابك ضراعة لا تحكما ، وسؤال تخير ، فإن أطعت فنفسك نفعت ، وإن خالفت وقصدتنا [رددناك ، و] منعنا طلبتك ، واعتمدنا معك ما يقتضيه حكم الإمام والسلطان ، وأتاك من الله تعالى ما لا قبل لك به ، ولا يدان .
وخطب في للمقتدي اليمن ، والشامات ، وبيت المقدس ، والحرمين ، واسترجع المسلمون الرها وأنطاكية ، وعمر الجانب الشرقي من بغداد ، فعمرت البصلية ، والقطيعة ، والحلبة ، والأجمة ، ودرب القيار ، وخرابة ابن جردة ، وخرابة الهراس ، والخاتونيتين ، والمقتدية ، وبنى الدار الشاطئية على دجلة ، والأبنية العجيبة في داخل الدار ، وكانت أيام كثيرة الخير ، ووزر له المقتدي أبو منصور محمد بن جهير ، ثم أبو شجاع ، ثم عاد أبو منصور ، وكان قضاته ثم أبو عبد الله الدامغاني ، أبو بكر الشامي ، وحاجبه أبو عبد الله المردوسي ، ثم بعده أبو منصور المعوج .
وفي شعبان: تقدم فخر الدولة إلى المحتسب في الحريم بنفي المفسدات ، وبيع دورهن فشهر جماعة منهن على الحمير [مناديات على أنفسهن] وأبعدهن إلى الجانب الغربي ، ومنع الناس من دخول الحمامات بلا مآزر وقلع الهوادي والأبراج ، ومنع اللعب بالطيور لأجل الاطلاع على سطوح الناس ، ومنع الحماميين من إجراء ماء الحمامات إلى دجلة ، وألزمهم أن يحفروا لها آبارا تجتمع المياه فيها ، وصار من يغسل السمك والمالح يعبر إلى النجمي فيغسل هناك ، ومنع الملاحين أن يحملوا الرجال والنساء مجتمعين .
وفي يوم الخميس السابع والعشرين من رمضان: عميد الدولة أبو منصور وسار إلى حضرة السلطان لأخذ البيعة للمقتدي ، وحمل معه ثماني مائة ثوب أنواعا وخمسة عشر ألف دينار . خرج
ووقعت نار في شوال في دكان خباز في نهر المعلى ، فأتت على السوق جميعه ، [ ص: 167 ] وأذهبت اثنين وثمانين دكانا غير الدور ، ثم وقعت نار في المأمونية ، ثم في الظفرية ، ثم في درب المطبخ ، ثم في دار الخليفة ، ثم في حمام السمرقندي ، ثم في باب الأزج ، ثم في درب فراشة ، ثم في الجانب الغربي من نهر طابق ، ونهر القلائين والقطيعة ، ونهر البوابين ، وباب البصرة .
وورد الكتاب أنه وقع الحريق بواسط في تسعة مواضع ، واحترقت أربع وثمانون دارا وست خانات سوى الحوانيت اللطاف ، وآدر ليس عندها نار فذهب الفكر .
وفي عيد الأضحى: قطعت الخطبة العباسية والسلطانية من مكة ، وأعيدت الخطبة المصرية ، وكان مدة الخطبة العباسية بها أربع سنين وخمسة أشهر ، وسبب ذلك أن صاحب مصر قوي أمره ، فتراجع الناس إلى مصر ، ورخصت الأسعار ، واتفقت وفاة السلطان ووفاة الخليفة وخوف أمير مكة ، واجتمع إليه أصحابه فقالوا: إنما سلمنا هذا الأمر لبني العباس لما عدمنا المعونة من مصر ، ولما رجعت إلينا المعونة فإنا لا نبتغي بابن عمنا بدلا ، فأجابهم الأمير على كره ، وفرق المال الذي بعث ، وردت الأسماء المصرية التي كانت قلعت من قبة المقام .
وفي هذه السنة: دجلة ، وهلك أكثرهم بالوباء ، وجفلوا من جلت السوادية من أسافل نهر الملك بنسائهم وأولادهم وعواملهم ، فمنهم من التجأ إلى واسط ، ومنهم من عبر النهروانات ، ومنهم من قصد طريق خراسان لنقصان الفرات نقيصة قل أن يتحدث بمثلها .