وفي هذه السنة: بمكة رخص لم يشاهد مثله ، وبلغ البر والتمر مائتي رطل بدينار ، وهذا غريب هناك . كان
[ ص: 46 ]
وورد كتاب المسافرين من دمشق بسلامتهم من طريق السماوة ، وأنهم مطروا في نصف تموز حتى كانت الجمال تخوض في الماء ، وامتلأت المصانع والزبى .
وفيها: زادت الغارات ، حتى إن قوما من التجار أعطوا على وجه الخفارة من النهروان أربعة عشر ألف دينار ، ومائة كر ، ومائتي رأسا من الغنم .
وفي شوال: لقريش بن بدران رسول يقال له: نجدة ، من حضرة السلطان ، وكان عاد قريش قد أنفذ هذا الصاحب في صحبة السيدة أرسلان خاتون امرأة وأصحبه رسالة إلى السلطان يعده برد الخليفة إلى داره ، ويشير عنه بالقرب ليفعل ذلك ، ويتمكن منه ، وكان قد ورد كتاب من السلطان إلى القائم بأمر الله ، قريش عنوانه: للأمير الجليل علم الدين أبي المعالي قريش بن بدران مولى أمير المؤمنين ، من شاهنشاه المعظم ملك المشرق والمغرب طغرلبك أبي طالب محمد بن ميكائيل بن سلجوق ، وعلى رأس الكتاب العلامة السلطانية بخط السلطان: "حسبي الله" وكان في الكتاب: والآن قد سرت بنا المقادير إلى كل عدو للدين والملك ، ولم يبق لنا وعلينا من المهمات إلا خدمة سيدنا ومولانا الإمام أمير المؤمنين ، واطلاع أبهة إمامته على سرير عزه ، فإن الذي يلزمنا ذلك ولا فسحة في التضجيع فيه ساعة واحدة من الزمان ، وقد أقبلنا بخيول المشرق إلى هذا المهم العظيم ، ونريد من الأمير الجليل علم الدين إتمام السعي النجيح ، الذي وفق له ، وتفرد به ، وهو أن يتم وفاءه من أمانته وخدمته في باب سيدنا ومولانا القائم بأمر الله ، أمير المؤمنين من أحد الوجهين إما أن يقبل به إلى ذكر عزه ، ومثوى إمامته ، وموقف خلافته من القائم بأمر الله مدينة السلام ، وينتدب بين يديه موليا أمره ومنفذا حكمه ، وشاهرا سيفه وقلمه ، وذلك المراد ، وهو خليفتنا في تلك الخدمة المفروضة ، وتوليه العراق بأسرها ، وتصفى له مشارع برها وبحرها لا يطأ حافر خيل من خيول [ ص: 47 ] العجم شبرا من أراضي تلك الممالك إلا بالتماسه لمعاونته ومظاهرته ، وإما أن يحافظ على شخصه [الكريم] العالي بتحويله من القلعة إلى حلته ، أو في القلعة إلى حين لحاقنا بخدمته ، فنتكفل بإعادته ، وليكون الأمر الجليل مخيرا بين أن يلتقي بنا أو يقيم حيث شاء ، فنوليه العراق ، ونستخلفه في الخدمة الإمامية ، ونصرف أعنتنا إلى الممالك الشرقية .
فهممنا لا تقتضي إلا هذا الغرض من العرض ، ولا نسف إلى مملكة من تلك الممالك بل الهمة دينية ، وهو أدام الله تمكينه يتقن ما ذكرنا ، ويعلم أن توجهنا إثر هذا الكتاب لهذا الغرض المعلوم ولا غرض سواه ، فلا يشعرن قلوب عشائره رهبة ، فإنهم كلهم إخواننا ، وفي ذمتنا وعهدنا ، وعلينا به عهد الله وميثاقه ما داموا موافقين للأمير الجليل في موالينا ، ومن اتصل به من سائر العرب والعجم والأكراد ، فإنهم مقرون في جملته ، وداخلون في عهدنا وذمتنا ، ولكل مخترم في العراق عفونا وأماننا مما بدر منه ، إلا فإنه لا عهد له ولا أمان ، وهو موكول إلى الشيطان وتساويله ، وقد ارتكب في دين الله عظيما ، وهو إن شاء الله مأخوذ حيث وجد ، معذب على ما عمل ، فقد سعى في دماء خلق كثير بسوء دخيلته ، ودلت أفعاله على فساد عقيدته ، فإن سرب في الأرض فإلى أن يلحقه المكتوب على جبهته ، وإن وقف فالقضاء سابق إلى مهجته ، والله تعالى يجازي الأمير الجليل على كل سعي تجشم في مصالح الدين ، وفي خدمة إمام المسلمين . وقد حملنا الأستاذ العالم البساسيري ، أبا بكر أحمد بن محمد بن أيوب بن فورك ، ومعتمد الدولة أبا الوفاء زيرك ما يؤديانه من الرسائل وهو يصغي إليهما ، ويعتمد عليهما ، ويسرحهما إلى القلعة؛ ليخدما مجلس سيدنا ومولانا أمير المؤمنين عنا . وكتب في رمضان سنة إحدى وخمسين .
وحمل مع هذين الرسولين خدمة إلى الخليفة أربعون ثوبا أنواعا ، وعشرة دسوت ثياب مخيطة ، وخمسة آلاف دينار ، وخمسة دسوت مخيطة من جهة خاتون زوجة القائم .
[ ص: 48 ]
فحكى "نجدة" لقريش أن السلطان طغرلبك بهمذان في عساكر كثيرة ، وهو بنية المسير إلى العراق متى لم يرد الخليفة إلى بغداد ، فخاف قريش وارتاع ، فابتاع جمالا عدة ، وأصلح بيوتا كثيرة ، وأنفذ إلى البرية من يحفر فيها ويعمرها ليدخلها ، ثم أنفذ الكتاب الوارد إليه مع "نجدة" إلى ليدبر الأمر على مقتضاه ، فأنفذ البساسيري إلى البساسيري بغداد ، فأخذ دوابه وجماله ورحله إلى مقره بواسط ، وكاتب أهله يطيب نفوسهم ويقول: متى صح عزم هذا الرجل على قصد العراق سرت إليكم وأخذتكم ، فلا تشغلوا قلوبكم .
وتقدم بأن يسلخ ثور أسود ويؤخذ جلده فيكسى به رمة ويجعل قرناه على رأسه ، وفوقهما طرطور أحمر ، ففعل ذلك . أبي القاسم ابن المسلمة ،
ثم أجاب البساسيري إلى عود الخليفة ، وشرط في ذلك شروطا منها: أن يكون هو النائب على باب الخليفة ، والخادم دون غيره ، ورد خوزستان والبصرة إليه على قديم عادته ، وأن يخطب للخليفة فقط دون أن يشاركه في الخطبة ركن الدين ، وبعث مع رسل السلطان إلى الخليفة من يتولى إحلاف الخليفة له على ما اشترط ، وعرف طغرلبك قرب السلطان ، فكاتب أصحابه البساسيري بالبصرة ليصعدوا إليه ليقصد بغداد ، فأعجل الأمر عن ذلك ، وانحدر حرم وأولاده وأصحابهم وأهل البساسيري الكرخ والمتشبهون في دجلة ، وعلى الظهر ، وبلغت أجرة السمارية إلى النعمانية عشرة دنانير ، ونهب الأعراب والأكراد أكثر المشاة ، ولما وصل السائرون على الظهر إلى صرصر غرق في عبورهم قوم منهم ، وبقي أكثر العامة لم يعبروا ، فعطف عليهم بنو شيبان فنهبوهم ، وقتلوا أكثرهم ، وعروا نساءهم ، وتقطعت قطعة منهم في السواد .
وكان خروج أصحاب في اليوم السادس من ذي القعدة ، وكذلك كان دخولهم إلى البساسيري بغداد في سادس ذي القعدة ، وكان تملكهم سنة كاملة ، وثار الهاشميون وأهل باب البصرة إلى الكرخ فنهبوها وطرحوا النار في أسواقها ودروبها ، واحترقت دار الكتب التي وقفها [ ص: 49 ] سابور بن أردشير الوزير في سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة ، وكان فيها كتب كثيرة ، واحترق درب الزعفراني ، وكان فيه ألف ومائتا دار ، لكل دار منها قيمة ، ونهبت الكوفة نيفا وثلاثين يوما .
وأما الخليفة فإن مهارشا العقيلي صاحب الحديثة الذي كان مودعا عنده حلف له ووثق من نفسه في حراسة مهجته ، وأن لا يسلمه إلى عدو ، وكان قد تغير على لوعود وعده بها ولم يف له ، وأجفل البساسيري قريش في البرية مصعدا إلى الموصل بعد أن بعث إلى مهارش يقول له: قد علمت أننا أودعنا الخليفة عندك ثقة بأمانتك ، وقد طلبوه الآن ، وربما قصدوك وحاصروك وأخذوه منك ، فخذه وارحل به وأهلك وولدك إلي؛ فإنهم إذا علموا حصوله بأيدينا لم يقدموا على طرق العراق ، ثم نقرر الأمر في عوده على قاعدة نكون معها سالمين ، ونقترح ما نريد من البلاء عوضا عن رده ، وما أروم تسليمه منك ، بل يكون في يدك على جملته بحيث لا يمكن أن يؤخذ قهرا من أيدينا .
فقال مهارش للرسول: قل له إن غدرني ، ولم يف بما ضمنه لي ، وبعثت بصاحبي إلى البساسيري بغداد ، وقلت له قد برئت من اليمين التي لكم في عنقي ، فأنفذوا وتسلموا صاحبكم الذي عندي فلم يفعل ، وعرف الخليفة خلاص رقبتي من اليمين التي كانت علي فاستحلفني لنفسه ، وتوثق مني بما لا يمكن فسخه .
وقال مهارش للخليفة: الرأي الخروج والمضي إلى بلد بدران بن مهلهل؛ لننظر ما قد يجد من أمر هذا السلطان الوارد ، ونكون في موضع نأمن به وندبر أمورنا بمقتضى الأمر ، فما آمن أن يجيئنا فيحضرنا فلا نملك اختيارنا . فقال له: افعل ما ترى . البساسيري
فسارا من الحديثة في يوم الاثنين الحادي عشر من ذي القعدة إلى أن حصلا بقلعة تل عكبرا ، فلقيه هناك وسلم إليه ما أنفذه السلطان ، وكتب إلى السلطان يخبره الحال ، ويسأله إنفاذ سرادق كبير ، وخيم ، وفروش ، وكان السلطان حينئذ قد وصل إلى ابن فورك بغداد ، ففرح السلطان بذلك ، ونهب عسكر السلطان ما بقي من نهر طابق ، وباب [ ص: 50 ] البصرة ، وجميع البلد ، ولم يسلم من ذلك إلا حريم الخليفة ، وكان أكثره خاليا ، وأخذ الناس فعوقبوا ، واستخرجت منهم الأموال بأنواع العذاب ، وتشاغل بعمارة دار المملكة ، فوقع النقض في أكثر ما سلم .
وبعث السلطان عميد الملك ومن استعقله من الأمراء والحجاب في نحو ثلاثمائة غلام ، وأصحبهم أربع عشرة بختية عليها السرادق الكبير ، والعدد من الخيم ، والخركاهات ، والآلات ، والفروش ، ستة أبغل عليها الثياب والأواني ، وبغلا عليه مهد مسجف ، وثلاثة أفراس بالمراكب الذهب .
قال فاستقبلتهم ، فاستشرحني عميد الملك ما جرى ، فشرحته . فقال: تقدم واضرب السرادق والخيام ، وانقل أمير المؤمنين من حيث هو إليها ليلقاه فيها ، وإذا حضرنا فليؤخر الإذن لنا ساعة كبيرة ، فسبقت وفعلت ذلك ، ودخل عميد الملك فأورد ما أوجب إيراده من سرور السلطان وابتهاجه بما يسره الله تعالى له من خلاصه ، وشكر ابن فورك: مهارشا على جميل فعله ، وسأل الخليفة السير ، فقال: بل نستريح يومين ونرحل؛ فقد لحقنا من النصب ما يجب أن يحلل بالراحة ، قال: كما ترى .
وكتب عميد الملك إلى السلطان كتابا فشرح له ما جرى فيه [وأحب] أخذ خط الخليفة على رأسه؛ تصديقا لما يتضمنه ، فلم يكن عنده دواة حاضرة ، فأحضر عميد الملك من خيمته دواة فتركها بين يديه ، وأضاف إليها سيفا منتخبا ، وقال: هذه خدمة محمد بن منصور -يعني نفسه- جمع في هذه الدولة بين خدمة السيف والقلم .
فشكره الخليفة وأقاموا يومين ، ثم وقع الرحيل ، فوصلوا إلى النهروان يوم الأحد الرابع والعشرين من ذي القعدة . فأشعر السلطان بذلك فقال: قولوا لأبي نصر -يعني عميد الملك- يقيم إلى أن ينزل الخليفة ويستريح ، ويصلي ويتناول الطعام ، ثم يعرفني حتى أجيء وأخدمه .
[ ص: 51 ]
فلما جاء وقت العصر جاء عميد الملك فأخبر السلطان بعد أن استأذن له الخليفة ، فركب فلما وقعت عينه على السرادق نزل عن فرسه ومشى إلى أن وصله ، فدخل فقبل الأرض سبع مرات ، فأخذ الخليفة مخدة من دسته فطرحها له بين يديه ، وقال: اجلس .
فأخذ المخدة فقبلها ، ثم تركها وجلس عليها ، وأخرج من قبائه الجبل الياقوت الأحمر الذي كان لبني بويه ، فطرحه بين يديه ، وأخرج اثنتي عشرة حبة لؤلؤا كبارا مثمنة ، فقال: أرسلان خاتون -يعني زوجة الخليفة- تخدم ، وتسأل أن تسبح بهذه السبحة ، فقد أنفذتها معي ، وكان يكلم عميد الملك وهو يفسره ، واعتذر عن تأخره عن الورود إلى الحضرة الشريفة واستخلاص المهجة الكريمة بما كان من [عصيان] أخيه إبراهيم ، وقال: كان من الإخوة الحسدة ، وقد جرت له بالعصيان عوائد عفوت عنه فيها ، فأطمعه ذلك ، فلما عاد فعله بالضرر على أمير المؤمنين والدين والدولة العباسية خنقته بوتر قوسه ، وشفع ذلك وفاة الأخ الأكبر داود ، فأحوجني الأمر إلى [ترتيب حتى] رتبت أولاده مكانه ، فلم يمكن أن أصمد لهذه الخدمة ، ثم أعددت لأصل إلى الحديثة ، وأخدم المهجة الشريفة ، فوصل إلي الخبر بما كان من تفضل الله تعالى في خلاصها ، وخدمة هذا الرجل -يعني مهارشا- بما أبان عن صحيح ديانته ، وصادق عقيدته ، وأنا إن شاء الله أمضي وراء هذا الكلب -يعني وأقتنصه وأيمم إلى البساسيري- الشام ، وأفعل بصاحب مصر فيها ما يكون جزاء لفعل هاهنا . البساسيري
فدعا له الخليفة وشكره وقلده بيده سيفا كان إلى جنبه ، وقال: إنه لم يسلم مع أمير المؤمنين وقت خروجه غير هذا السيف ، وقد تبرك به ، وشرفك بتقليده . فتقلده وقبل الأرض ، ونهض واستأذن للعسكر ، فأذن ، فدخل الأتراك من جوانب السرادق ، وكشفت أغطية الخركاه المضروبة على الخليفة حتى شاهدوه وخدموه وانصرفوا ، ووقع المسير من غد ، والدخول إلى بغداد .
وتقدم الخليفة بضرب خيمة في معسكر السلطان ، وقال: أريد أن أكون معه إلى أن يكفي الله من أمر هذا اللعين ، فما تأمن الخدمة الشريفة المقام في مكان لا يكون فيه .
[ ص: 52 ]
فقال السلطان: الله الله ، ما هذا مما يجوز أن يكون مثله ، ونحن الذي يصلح للحرب والسفر والتهجم والخطر دون أمير المؤمنين ، وإذا خرج بنفسه فأي حكم لنا ، وأي خدمة تقع منا؟! وامتنع أن يجيبه إلى ذلك ، فدخل الخليفة البلد ، وتقدم السلطان إلى باب النوبي ، وقعد مكان الحاجب على دكته إلى أن ورد الخليفة والعسكر محتفون به ، ولم يكن في بغداد من يستقبله سوى قاضي القضاة وثلاثة أنفس من الشهود ، وذلك لهرب الناس عن البلد ، ومن بقي منهم فهو في العقوبات وآثار النهب ، فلما وصل إلى الدار أخذ بلجام بغلته حتى وصل إلى باب الحجرة ، وذلك في يوم الاثنين لخمس بقين من ذي القعدة ، فلما نزل الخليفة خدمه السلطان ، واستأذنه في المسير وراء فأذن له ، فانصرف وعبر إلى معسكره ، فجاءه البساسيري ، سرايا ابن منيع متقدم بني خفاجة ، فقال له: الرأي أيها السلطان أن تنفذ معي ألفي غلام من العسكر حتى أمضي إلى طريق الكوفة ، فأشغل عن الإصعاد إلى البساسيري الشام ، ويأخذه من عرقوبه لما تنحدر أنت وراءه ، فلم يعجب السلطان ذلك ، إلا أنه خلع عليه ، وأعطاه سبعمائة دينار ، وأنزل في العسكر .
فلما انتصف الليل انتبه السلطان ، فاستدعى خمارتكين فقال له: اعلم أني قد رأيت الساعة في منامي كأني قد ظفرت بالبساسيري وقتلته ، وينبغي أن يسير عسكر إليه من طريق الكوفة كما قال سرايا ، فإن نشطت أنت فكن مع القوم . فقال: السمع والطاعة .
فسار وسار معه أنوشروان وجماعة من الأمراء ، وتبعهم السلطان في يوم الجمعة تاسع وعشرين [من الشهر] فأما مهارش فإنه اقترح اقتراحات كثيرة ، فأطلق له السلطان [ ] عشرة آلاف دينار ولم يرض ، وأما طغرلبك فإنه أقام البساسيري بواسط [ ص: 53 ] متشاغلا بجمع الغلات والتمور ، وحطها في السفن ليصعد بها إلى بغداد ، مستهينا بالأمور إلى أن ورد عليه الخبر بانحدار أهله وولده ، ودخول الغز ، فأصعد إلى النعمانية بالسفن التي جمع فيها الغلات ، فورد عليه الخبر بدخول السلطان بغداد ، فكاتب ابن مزيد ليجمع العرب ، ولم يتصور أن السلطان نيته الانحدار ، فجاء ابن مزيد إلى نصف الطريق ثم عاد ثم جاء ثم عاد خوفا وخورا ، فانحدر إليه وكان قد وكل البساسيري بأبي منصور بن يوسف ، فأزال ابن مزيد التوكيل عنه ، وقال له: هذا وقت التقبيح . وكان شاكا في البساسيري ابن مزيد مستشعرا منه ، إلا أن الضرورة قادته إليه .
وعلمت العرب أن السلطان نيته قصدهم وبوادي الشام ، فتفرقوا ولم يشعروا إلا بورود السرية إليهم ، وذلك في يوم السبت ثامن ذي الحجة من طريق الكوفة ، فقال البساسيري لابن مزيد: الرأي كبسهم الليلة ، فإنهم قد قدموا على كلال وتعب . فامتنع ، وقال: نباكرهم غدا .
فراسل أنوشروان ابن مزيد والتمس الاجتماع معه ، فالتقى به فقال له أنوشروان: إن عميد الملك يقرئك السلام ، ويقول لك: قد مكنت في نفس السلطان من أمرك ما جعلت لك فيه المحل اللطيف ، والموقع المنيف ، وشرحت له ما أنت عليه من الطاعة والولاء ، ويجب أن تسلم هذا الرجل ، ويسلم كل من في صحبتك ، فما الغرض سواه ، ولا القصد يتعداه ، لما اقترف من عظيم الجرم ، وإن امتنعت واحتججت بالعربية وذمامها ، وحرمة نزوله عليك ، فانصرف عنه ، ودعنا وإياه .
فقال: ما أنا إلا خادم للسلطان مطيع ، إلا أن للبدوية حكمها ، وقد نزل هذا الرجل علي نزولا ، وما آثرته ولا اخترته ، بل كرهته ، وقد طال أمر هذا الرجل ، والصواب أن نشرع في صلاح حاله واستخدامه .
فقال أنوشروان: هذا هو الصواب ، ونحن نبعد عنكم مرحلة وتبعدون عنا مثلها [ ص: 54 ] حتى لا يتطرق بعضنا إلى بعض ، وأراسل السلطان بما رأيته ، فإنه على نية اللحاق بنا ، ولا شك في وصوله إلى النعمانية ، وما نخالفك على شيء تراه .
وما في الرجلين إلا من قصد خديعة صاحبه ، فأما ابن مزيد: فإنه أراد المدافعة بالحال لتحققه بانحدار السلطان حتى يبعد عنه السرية فيصعد إلى البرية إلى حيث يأمن إلى حلته وعشيرته ، ويدبر أمر انفصاله عن البساسيري .
وأما أنوشروان: فأراد أن يبعد عن القوم ليفسح لهم طريق الانصراف فإذا رحلوا تبعهم وأكب عليهم وهم مشتغلون بالرحلة عن الحرب .
وعاد ابن مزيد فأخبر بما جرى ، فرد التدبير إليه ، وقال: الأمر أمرك ، وتأهبت السرية واستظهرت بأخذ العلوفة ، ورحل البساسيري البساسيري وابن مزيد يوم الثلاثاء حادي عشر ذي الحجة ، والأتراك يراصدونهم ، فلما أبعدوا عن أعينهم تبعوهم فحاربوهم ، فثبت وجماعته ، وأسرع البساسيري ابن مزيد إلى أوائل الظعن ليحطه ويرد العرب إلى القتال ، فلم يقبلوا منه ، وأسر منصور ، وبدران ، وجماعة أولاد ابن مزيد ، وانهزم على فرسه فلم ينجه ، وضرب فرسه بنشابة فرمته [إلى] الأرض ، وأدركه بعض الغلمان فضربه ضربة على وجهه ولم يعرفه ، وأسره البساسيري كمشتكين دواتي عميد الملك ، وحز رأسه وحمله إلى السلطان ، وساق الترك الظعن ، وأخذت أموال عظيمة عجزوا عن حملها ، وهلك من البغداديين الذين كانوا معهم خلق كثير ، وأخذت أموالهم ، وتبددوا في البراري والآجام ، وأخذت العرب من سلم .
وقد ذكرنا أن أصحاب دخلوا إلى البساسيري بغداد في اليوم السادس من ذي القعدة وخرجوا منها في سادس ذي القعدة ، وكان ملكهم سنة كاملة ، واتفق إخراج الخليفة من داره يوم الثلاثاء [ثامن عشر كانون الثاني ، ومقتل يوم الثلاثاء] ثامن عشر كانون الثاني من السنة الآتية ، وهذا من الاتفاقات الظريفة . البساسيري
[ ص: 55 ]
ولما حمل الرأس إلى السلطان حكى له الذي أسره أنه وجد في جيبه خمسة دنانير ، وأحضرها ، فتقدم السلطان إلى أن يفرغ المخ من رأسه ويأخذ الخمسة دنانير ، ثم أنفذه حينئذ إلى دار الخلافة ، فوصل في يوم السبت النصف من ذي الحجة ، فغسل ونظف ، ثم ترك على قناة ، وطيف به من غد ، وضربت البوقات والدبادب بين يديه ، واجتمع من النساء والنفاطين [وغيرهم] بالدفوف ومن يغني بين يديه ، ونصب من بعد ذلك على رأس الطيار مدة بإزاء دار الخلافة ، ثم أخذ إلى الدار .
وعرض في يوم السبت المذكور من الجو انقضاض كواكب كثيرة ، ورعد شديد قبل طلوع الشمس بساعة ، وكان ذلك مفرطا .
وهرب ابن مزيد إلى البطيحة ونجا معه ابن البساسيري وبنته وأخواه الصغيران ووالدتهما ، وكانت العرب سلبتهم ، فاستهجن ابن مزيد ذلك وارتجع ما أخذ ، ثم هرب ابن البساسيري إلى حلب ، ثم توسط أمر ابن مزيد مع السلطان ، فأطلق أولاده وإخوته ، وحضر فداس البساط ، وأصعد معه إلى بغداد ، ونهب العسكر ما بين واسط والبصرة والأهواز .
وفي هذا الشهر: أنفذ السلطان من واسط والدة الخليفة ، ووالدة الأمير أبي القاسم عدة الدين بن ذخيرة الدين ، ووصال القهرمانة ، وكن في أسر فتبعهم جمع كثير من الرجال والنساء المأخوذين في الوقعة . البساسيري ،
وفي هذا الشهر: عول من الديوان علي بن أبي علي الحسن بن عبد الودود بن المهتدي في الخطابة بجامع المنصور بدلا من أبي الحسن بن أحمد بن المهتدي ، وعزلا له لأجل ما أقدما عليه في أيام من تولي الخطبة في هذا الجامع لصاحب البساسيري مصر .
قال محمد بن عبد الملك الهمذاني: ولما عاد القائم من الحديثة لم ينم على [ ص: 56 ] وطاء ، ولم يمكن أحدا أن يقرب إليه فطوره ولا طهوره ، ولأنه نذر أن يتولى ذلك بنفسه ، وعقد مع الله سبحانه العفو عمن أساء إليه والصفح ، وجميع من تعدى عليه ، فوفى بذلك ، وأشرف في بعض الأيام على البناءين والنجارين في الدار ، فرأى فيهم روزجاريا ، فأمر الخادم بإخراجه من بينهم ، فلما كان في بعض الأيام عاد فرآه معهم ، فتقدم إلى الخادم أن يبره بدينار ، وأن يخرجه ويتهدده إن عاد ، فأتاه الخادم ففعل ما رسم له ، وقال: إن رأيناك ها هنا قتلناك ، فسئل الخليفة عن السبب فقال: إن هذا الروزجاري بعينه أسمعنا عند خروجنا من الدار الكلام الشنيع ، وتبعنا بذلك إلى المكان الذي نزلناه من مشهد باب التبن ، ولم يكفه ذلك حتى نقب السقف ، فإذا أنا بغباره ، وتبعنا إلى عقرقوف فبدر من جهله ما أمسكنا عن معاقبته؛ رجاء ثواب الله تعالى ، وما عاقبت من عصى الله فيك بأكثر من أن تطيع الله فيه .