[ ص: 17 ] بأهواز وأعمالها] [وقوع وباء
وفي جمادى الآخرة: ورد كتاب من تجار ما وراء النهر: قد وقع في هذه الديار وباء عظيم مسرف زائد عن الحد ، حتى أنه خرج من هذا الإقليم في يوم واحد ثمانية عشر ألف جنازة ، وأحصي من مات إلى أن كتب هذا الكتاب فكانوا ألف ألف وستمائة ألف وخمسين ألفا ، والناس يمرون في هذه البلاد فلا يرون إلا أسواقا فارغة ، وطرقات خالية ، وأبوابا مغلقة ، حتى إن البقر نفقت .
أذربيجان وتلك الأعمال بالوباء العظيم ، وأنه لم يسلم إلا العدد القليل . وجاء الخبر من
ووقع وباء بالأهواز وأعمالها وبواسط ، وبالنيل ، ومطير أباذ ، والكوفة ، وطبق الأرض حتى كان يخد للعشرين والثلاثين زبية فيلقون فيها ، وكان أكثر سبب ذلك الجوع ، وكان لرجل جريبان أرضا دفع إليه في ثمنها عشرة دنانير فلم يبعها ، فباعها حينئذ بخمسة أرطال خبز ، وأكلها ومات من وقته . وطويت التجارات ، وأمور الدنيا ، وليس للناس شغل في الليل والنهار إلا غسل الأموات والتجهيز والدفن ، وكان الإنسان قاعدا فينشق قلبه عن دم المهجة ، فيخرج إلى الفم منه قطرة فيموت الإنسان . وكان الفقراء يشوون الكلاب ، وينبشون القبور فيشوون الموتى ويأكلونهم ،
وتاب الناس كلهم ، وتصدقوا بمعظم أموالهم ، وأراقوا الخمور ، وكسروا المعازف ، ولزموا المساجد لقراءة القرآن [خصوصا العمال والظلمة] ، وكل دار فيها خمر يموت أهلها في ليلة واحدة . ووجدوا دارا فيها ثمانية عشر نفسا موتى ، ففتشوا متاعهم فوجدوا خابية خمر ، فأراقوها . ودخلوا على مريض طال نزعه سبعة أيام ، فأشار بإصبعه إلى خابية خمر فقلبوها وخلصه الله [تعالى] من السكرة ، فقضى ، وقبل [ ص: 18 ] ذلك كان من يدخل هذه الدار يموت ، ومن كان مع امرأة حراما ماتا من ساعتهما ، وكل مسلمين بينهما هجران وأذى فلم يصطلحا ماتا معا ، ومن دخل الدار ليأخذ شيئا مما قد تخلف فيها وجدوا المتاع معه وهو ميت .
ومات رجل كان مقيما بمسجد فخلف خمسين ألف درهم ، فلم يقبلها أحد ، ووضعت في المسجد تسعة أيام بحالها ، فدخل أربعة أنفس ليلا إلى المسجد وأخذوها فماتوا عليها . ويوصي الرجل الرجل فيموت الذي أوصى إليه قبل الموصي ، وخلت أكثر المساجد من الجماعات .
وكان أبو محمد عبد الجبار بن محمد الفقيه معه سبعمائة متفقه فمات وماتوا سوى اثني عشر من الكل .
ودخل رجل على ميت وعليه لحاف فأخذه ، فمات ويده في [طرف] اللحاف وباقيه على الميت .
ودخل دبيس بن علي بلاده فوجدها خرابا لا أكار بها ولا عالمة ، حتى إنه أنفذ رسولا إلى بعض النواحي ، فلقيه جماعة فقتلوه وأكلوه .
أبو نصر الناس من الطرقات للعمل في دار المملكة ، وفيهم الهاشميون ، والقضاة ، والشهود ، والتجار ، فكانوا يحملون اللبن على أكتافهم وأيديهم عدة أسابيع . وجمع العميد
وفي يوم الأربعاء لسبع بقين من جمادى الآخرة: احترقت قطيعة عيسى ، وسوق الطعام ، والكبش ، وأصحاب السقط ، وباب الشعير ، وسوق العطارين ، وسوق العروس ، وباب العروس ، والأنماط ، والخشابين ، والجزارين ، والنجارين ، والصف ، والقطيعة ، وباب محول ، ونهر الدجاج ، وسويقة غالب ، والصفارين ، والصباغين ، وغير ذلك من المواضع [والرواضع] .
[ ص: 19 ]
من طغرلبك الموصل إلى بغداد ، وسلم الموصل وأعمالها إلى إبراهيم ينال ابن أخيه فأحسن وعاد إبراهيم السيرة .
وفي هذه السنة: الخليفة طغرلبك القائم بالله ، وكان السلطان يسأل في ذلك إلى أن تقرر كون هذا في ذي القعدة ، فجلس رئيس الرؤساء في صدر رواق صحن السلام ، وبين يديه الحجاب ، ثم استدعى نقيبي لقي السلطان العباسيين والعلويين ، وقاضي القضاة ، والشهود ، فلما تضاحى النهار كتب إلى السلطان بما مضمونه الإذن عن أمير المؤمنين في الحضور ، فأنفذ ذلك مع ابني طغرلبك الهاشميين ، ومن خدم الخواص خادمين ، ومن الحجاب حاجبين ، ولما وقف السلطان على ذلك نزل في الطيار ، وكان قد زين ، وأنفذ إليه ، فانحدر ومعه [عدة] زبازب سميريات ، وعلى الظهر فيلان يسيران بإزاء الطيار ، فدخل الدار والأولاد والأمراء والملوك يمشون بين يديه ، ونحو خمسمائة غلام ترك ، فلما وصل إلى باب دهليز صحن السلام وقف طويلا على فرسه حتى فتح له ، ونزل فدخل إلى الصحن ، ومشى وخرج رئيس الرؤساء إلى وسطه فتلقاه ، فدخل على أمير المؤمنين وهو على سرير عال من الأرض نحو سبعة أذرع ، عليه قميص وعمامة مصمتان ، وعلى منكبه بردة النبي صلى الله عليه وسلم ، وبيده القضيب ، فحين شاهد السلطان أمير المؤمنين قبل الأرض دفعات ، فلما دنا من مجلس الخليفة صعد رئيس الرؤساء إلى سرير لطيف دون ذلك السرير بنحو قامة ، وقال له أمير المؤمنين: أصعد المأمون ركن الدين إليك ، وليكن معه محمد بن منصور الكندري . فأصعدهما إليه ، وتقدم ، وطرح كرسي جلس عليه السلطان ، وقال [أمير المؤمنين] لرئيس الرؤساء:
قل له يا علي: أمير المؤمنين حامد لسعيك ، شاكر لفضلك ، آنس بقربك ، زائد الشغف بك ، وقد ولاك جميع ما ولاه الله تعالى من بلاده ، ورد إليك فيه مراعاة عباده ، فاتق الله [ ص: 20 ] فيما ولاك ، واعرف نعمته عليك ، وعبدك في ذلك ، واجتهد في عمارة البلاد ، ومصالح العباد ، ونشر العدل ، وكف الظلم .
ففسر له عميد الملك القول ، فقام وقبل الأرض ، وقال: أنا خادم أمير المؤمنين وعبده ، ومتصرف على أمره ونهيه ، ومتشرف بما أهلني له واستخدمني فيه ، ومن الله تعالى استهداء المعونة والتوفيق .
واستأذن أمير المؤمنين في أن ينهض ويحمل إلى حيث تفاض الخلع عليه ، فنزل إلى بيت في جانب البهو ، ودخل معه عميد الملك ، فألبس الخلع وهي سبع خلع في زي واحد ، وترك التاج على رأسه ، وعاد فجلس بين يدي أمير المؤمنين ، ورام تقبيل الأرض فلم يتمكن لأجل التاج ، وأخرج أمير المؤمنين سيفا من بين يديه فقلده إياه ، وخاطبه بملك المشرق والمغرب ، واستدعى ألوية وكانت ثلاثة: اثنان خمرية بكتائب صفر ، وآخر بكتائب مذهبة سمي لواء الحمد ، فعقد منهم أمير المؤمنين لواء الحمد بيده ، وأحضر العهد فقال . يسلم إليه ، ويقال له: يقرأ عليك عهدنا إليك ، ويفسر لك لتعمل بموجبه ، وبمقتضى ما أمرنا به ، خار الله لنا ولك وللمسلمين فيما فعلنا وأبرمناه ، آمرك بما أمرك الله به ، وأنهاك عما نهاك الله عنه ، وهذا منصور بن أحمد نائبنا لديك ، وصاحبنا وخليفتنا عندك ، ووديعتنا ، فاحتفظ به وراعه ، فإنه الثقة السديد والأمين الرشيد ، وانهض على اسم الله تعالى مصاحبا محروسا .
وكان من السلطان في كل فصل يفصل له من الشكر وتقبيل الأرض [ ص: 21 ] ما أبان عن حسن طاعته ، وصادق محبته ، وسأل مصافحته باليد الشريفة فأعطاه أمير المؤمنين يده دفعتين قبل لبسه الخلع وعند انصرافه من حضرته ، وهو يقبلها ويضعها على عينيه ، ودخل جميع من في الدار من الأكابر والأصاغر إلى المكان فشاهدوا تلك الحال ، وخرج إلى صحن دار السلام ، فسار والخيل والألوية أمامه ، ولما خرجت الألوية رفعت من سطح صحن السلام وحطت على روشن بيت النوبة ، ومنه إلى الطيار؛ لئلا تخرج في الأبواب فتنكس ، ومضى إليه رئيس الرؤساء في يوم الاثنين ، وهنأه عن الخليفة ، وقال له: إن أمير المؤمنين يأمرك أن تجلس للهناء بما أفاضه عليك من نعمة ، وولاك من خدمته ، وحمل إليه خلعة ، فقام وقبل الأرض وقال: قد أهلني أمير المؤمنين لرتبة يستنفد شكري ويستعبدني بما بقي من عمري ، وأتاه بسدة مذهبة ، وقال له: أمير المؤمنين يأمرك أن تلبس هذا التشريف ، وتجلس في هذا الدست ، وتأذن للناس ليشهدوا ما تواتر من إنعامه ، فيبتهج الولي ، وينقمع العدو . طغرلبك
وحمل السلطان في مقابلة ذلك خمسين غلاما أتراكا على خيول بسيوف ومناطق ، وعشرين رأسا من الخيل ، وخمسين ألف دينار ، وخمسين قطعة ثياب .