1019 - جعفر بن يحيى بن خالد ، أبو الفضل البرمكي .
كانت له فصاحة وبلاغة وكرم زائد ، وكان أبوه قد ضمه إلى القاضي يحيى بن خالد أبي يوسف ففقهه ، فصار له اختصاص . وقيل إنه وقع له في ليلة بحضرة بالرشيد زيادة على ألف توقيع ، فنظر في جميعها فلم يخرج شيء منها عن موجب الفقه . الرشيد
أخبرنا [ قال : أخبرنا [ أبو منصور ] القزاز أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت ] الخطيب قال : أخبرنا الجوهري قال : أخبرنا محمد بن عمران بن المرزباني قال : حدثنا عبد الواحد بن محمد الخصيبي قال : سمعت علي بن الحسين الإسكافي يحدث [ ص: 141 ] قال : كان أحمد بن الجنيد الإسكافي وكان أخص الناس بجعفر بن يحيى البرمكي ، وكان الناس يقصدونه في حوائجهم إلى جعفر ، وإن رقاع الناس كثرت في خف أحمد بن الجنيد ، فلم يزل كذلك إلى أن تهيأت له الخلوة بجعفر فقال له : جعلني الله فداك ، قد كثرت رقاع الناس معي وأشغالك كثيرة ، وأنت اليوم خال ، فإن رأيت أن تنظر فيها . فقال له جعفر : على أن تقيم عندي اليوم . فقال : نعم . فصرف دوابه وأقام ، فلما تغدوا جاءه بالرقاع ، فقال له جعفر : هذا وقت ذا دعنا اليوم ، فأمسك عنه وانصرف ولم ينظر في الرقاع ، فلما كان بعد أيام خلا به ، فأذكره [الرقاع ] ، فقال : نعم ، على أن تقيم عندي اليوم . فأقام عنده ، ففعل به مثل الفعل الأول ، حتى فعل به ذلك ثلاثا ، فلما كان ذلك في آخر يوم أذكره فقال : دعني الساعة . وناما ، فانتبه جعفر قبل أحمد ، فقال لخادم له : اذهب إلى خف أحمد بن الجنيد فجئني بكل رقعة فيه ، وانظر لا يعلم أحمد . فذهب الغلام ، وجاء بالرقاع ، فوقع فيها جعفر عن آخرها بخطه بما أحب أصحابها ، ووكد ذلك ، ثم أمر الغلام أن يردها إلى الخف ، فردها ، فانتبه أحمد ولم يقل فيها شيئا ، وانصرف أحمد ، فركب يعلل أصحاب الرقاع بها أياما ، ثم قال لكاتب له :
ويحك هذه الرقاع قد أخلقت في خفي ، وهذا ليس ينظر فيها ، فخذها فتصفحها ، وجدد ما أخلق منها . فأخذها الكاتب ، فنظر فيها ، فوجد الرقاع موقعا فيها بما سأل أصحابها ، فتعجب من كرمه ونبل أخلاقه ، ومن أنه قضى حاجته ولم يعلمه بها لئلا يظن أنه اعتد بها عليه .
أخبرنا ، أخبرنا أبو منصور القزاز أحمد بن علي بن ثابت الخطيب قال : أخبرنا حدثنا أبو القاسم الأزهري محمد بن العباس الخزاز ، حدثنا محمد بن خلف بن [ ص: 142 ] المرزبان ، حدثنا يعقوب النخعي ، حدثنا علي بن زيد كاتب العباس المأمون قال : حدثني محمد بن إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال : حدثني أبي قال : حج ومعه هارون الرشيد جعفر بن يحيى البرمكي . قال : وكنت معهم ، فلما صرنا إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي جعفر بن يحيى : أحب أن تنظر لي جارية ، ولا تبقى غاية في حذاقتها بالغناء والضرب ، والكمال في الظرف والأدب ، وجنبني قولهم صفراء . قال : فأرشدت إلى جارية لرجل ، فدخلت عليه فرأيت رسول النعمة ، وأخرجها إلي فلم أر أجمل منها ولا أصبح ولا آدب ، ثم تغنت إلي أصواتا فأجادتها . قال : فقلت لصاحبها : قل ما شئت . قال : أقول لك قولا ولا أنقص منه درهما . قال : قلت : قل . قال : أربعين ألف دينار . قال : قلت : قد أخذتها وأشترط عليك نظرة قال : ذاك لك . قال : فأتيت جعفر بن يحيى . فقلت له : قد أصبت حاجتك على غاية الظرف والأدب والجمال ونقاء اللون وجودة الضرب ، وقد اشترطت نظرة ، فاحمل المال ومر بنا . فحمل المال على حمالين ، وجاء جعفر مستخفيا ، فدخلنا على الرجل ، فأخرجها ، فلما رآها جعفر أعجب بها ، وعرف أن قد صدقته ، ثم غنته فازداد بها عجبا ، فقال لي : اقطع أمرها . فقلت لمولاها هذا المال ، قد وزناه ونقدناه ، فإن قنعت وإلا فوجه إلي من شئت لينقد . فقال : لا بل أقنع بما قلتم . قال : فقالت الجارية : يا مولاي في أي شيء أنت ؟ فقال : قد عرفت ما كنت فيه من النعمة ، وما كنا فيه من انبساط اليد ، وقد انقبضت عن ذلك لتغير الزمان [علينا ] ، فقدرت أن تصيري إلى هذا الملك فتنبسطي في شهواتك وإرادتك . فقالت الجارية : والله يا مولاي لو ملكت منك ما ملكت مني ما بعتك بالدنيا وما فيها ، وبعد فاذكر العهد الذي بيني وبينك . وقد كان حلف لها أن لا يأكل لها ثمنا . [ ص: 143 ] فتغرغرت عينا المولى ، وقال : اشهدوا أنها حرة لوجه الله تعالى ، وإني قد تزوجتها وأمهرتها داري . قال : فقال لي جعفر : انهض بنا . قال : فدعوت الحمالين ليحملوا المال فقال جعفر : والله لا يصحبنا منه درهم ، [ثم قال لمولاها : بارك الله لك فيه ، أنفقه عليها وعليك ] . قال : وقمنا فخرجنا .
أخبرنا القزاز قال : أخبرنا [ قال : أخبرنا أحمد بن علي ] الخطيب سلام بن الحسن المقرئ قال : أخبرنا علي بن عمر الحافظ قال : حدثنا إبراهيم بن حماد قال : حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال : حدثني محمد بن أحمد بن المبارك العبدي قال : حدثني عبد الله بن علي أبو محمد قال : لما غضب [ ] على البرامكة أصيب في خزانة الرشيد لجعفر بن يحيى في جرة ألف دينار ، في كل دينار مائة دينار ، على أحد جانبي كل دينار منها :
وأصفر من ضرب دار الملو ك يلوح على وجهه جعفر يزيد على مائة واحدا
متى تعطه معسرا يوسر
[قال المصنف : وقد ذكرنا السبب الذي أوجب قتل جعفر ، ونكب البرامكة فلا نحتاج إلى إعادة .
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك ، ومحمد بن ناصر قالا : أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال : أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد النصيبي قال : أخبرنا أبو القاسم إسماعيل بن سويد قال : حدثنا قال : حدثني أبي قال : حدثنا أبو بكر الأنباري عبد الله بن عبد الرحمن المدائني قال : قال أبو زكار الأعمى : كنت عند جعفر بن [ ص: 144 ] يحيى البرمكي في الليلة التي قتل فيها وهو يغني بهذا الشعر :
فلا تبعد فكل فتى سيأتي عليه الموت يبكر أو يغادي
وكل ذخيرة لا بد يوما وإن بقيت تصير إلى نفاد
فلو فوديت من حدث الليالي فديتك بالطريف وبالتلاد
فقلت له : يا سيدي ، ممن أخذت هذا الشعر ؟ فقال : أخذته من أحسن الناس شعرا [من ] حكم الوادي . فما قام عن موضعه حتى جاء مسرور غلام فأخذ رأسه ] . الرشيد
أخبرنا القزاز قال : أخبرنا أحمد بن علي قال : أخبرنا أبو يعلى أحمد بن عبد الواحد قال : أخبرنا إسماعيل بن سعيد المعدل قال : حدثنا الحسين بن الفهم قال : أخبرني الحسين بن سعيد العنبري قال : حدثني ، عن أبيه قال : قال حماد بن إسحاق أبو يزيد الرياحي : كنت قاعدا عند خشبة جعفر بن يحيى البرمكي أتفكر في زوال ملكه ، وحاله التي صار إليها إذ أقبلت امرأة راكبة لها رواء وهيئة ، فوقفت على جعفر فبكت فأحزنت ، وتكلمت فأبلغت ، وقالت : أما والله لئن أصبحت في الناس آية ، لقد بلغت فيهم الغاية ، ولئن زال ملكك ، وخانك دهرك ، ولم يطل بك عمرك ، لقد كنت المغبوط حالا ، الناعم بالا ، يحسن بك الملك ، فاستعظم الناس فقدك إذ لم يستخلفوا ملكا بعدك ، فنسأل الله الصبر على عظيم الفجيعة وجليل الرزية التي لا تستعاض بغيرك ، والسلام عليك وداع غير قال ولا ناس لذكرك ، ثم أنشأت تقول :
العيش بعدك مر غير محبوب ومذ صلبت ومقنا كل مصلوب
أرجو لك الله ذا الإحسان إن له فضلا علينا وعفوا غير محسوب
ثم سكتت ساعة وتأملته ، ثم أنشأت تقول :
[ ص: 145 ]
عليك من الأحبة كل يوم سلام الله ، ما ذكر السلام
لئن أمسى صداك برأي عين على خشب حباك بها الإمام
فمن ملك إلى ملك برغم من الأملاك أسلمك الحمام
أخبرنا القزاز قال : أخبرنا أحمد بن علي قال : أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق قال : أخبرنا عمر بن جعفر بن محمد بن مسلم قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال : حدثني إسماعيل بن محمد قال : لما بلغ قتل سفيان بن عيينة جعفر بن يحيى وما نزل بالبرامكة حول وجهه إلى القبلة وقال : اللهم إنه كان قد كفاني مئونة الدنيا فاكفه مئونة الآخرة .
أخبرنا قال أخبرنا أبو منصور القزاز قال : أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت أبو علي محمد بن الحسين الجازري قال : حدثنا (ح ) . المعافى بن زكريا
وأخبرنا محمد بن ناصر قال : أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال : أخبرنا محمد بن عبد الواحد قال : حدثنا محمد بن عبد الرحيم المازني قال : حدثنا أبو علي الحسين بن القاسم الكوكبي قال : حدثنا أبو بكر الضرير قال : حدثني غسان بن عمر القاضي ، عن محمد بن عبد الرحمن الهاشمي قال : دخلت على أمي في يوم أضحى وعندها امرأة برزة في أثواب دنسة رثة ، فقالت لي : أتعرف هذه ؟ قلت : لا . قالت : هذه عبادة أم جعفر بن يحيى بن خالد . فسلمت عليها ورحبت بها ، وقلت لها : يا فلانة ، حدثيني ببعض أمركم . قالت : أذكر لك جملة كافية فيها اعتبار لمن اعتبر ، وموعظة لمن فكر ، لقد هجم علي مثل هذا العيد وعلى رأسي أربعمائة وصيفة ، وأنا أزعم أن جعفرا ابني عاق بي ، وقد أتيتكم في هذا اليوم [أسألكم ] جلد شاتين أجعل أحدهما شعارا والآخر دثارا .
[ ص: 146 ] أخبرنا محمد بن عبد الباقي البزار ، أنبأنا علي بن أبي علي البصري ، عن أبيه ، أن مسرورا قال : استدعاني فقال لي : قد أكثر علي أخبار السر بأن شيخا يأتي خراب البرامكة فيبكي وينتحب طويلا ثم ينشد شعرا يرثيهم به وينصرف ، فاركب أنت ودينار بن عبد الله واستتر بالجدران ، فإذا جاء وشاهدتما ما فعل وسمعتما ما قال فأتياني به ، فركبنا مغلسين ، فأتينا الموضع فاختفينا فيه وأبعدنا الدواب ، فلما أصبحنا إذا بخادم أسود قد أقبل ومعه كرسي حديد ، فطرحه وجاء على أثره كهل فجلس على الكرسي وتلفت فلم ير أحدا ، فبكى وانتحب حتى قلت قد فارق الدنيا ، ثم أنشأ يقول : المأمون
ولما رأيت السيف خلل جعفرا ونادى مناد للخليفة في يحيى
وذكر أبياتا قد تقدمت ، فلما قام قبضنا عليه ، فقال : ما تريدان مني . قلت : هذا دينار بن عبد الله وأنا مسرور خادم أمير المؤمنين وهو يستدعيك فالبس ، ثم قال : إني لا آمنه على نفسي ، فأمهلني حتى أوصي . قلت : شأنك . فسرنا معه فوقف على دكان رجل واستدعى دواة وبيضاء ، فكتب فيها وصيته ، ودفعها إلى خادمه ، وسرنا به ، فلما مثل بين يدي الخليفة زبره وقال : من أنت ؟ وبم استحق منك البرامكة ما تصنع . فقال غير هائب ولا محتشم : يا أمير المؤمنين ، إن للبرامكة عندي أيادي خضراء ، فإن أمر أمير المؤمنين حدثته ببعضها . فقال : هات . فقال : أنا المنذر بن المغيرة الدمشقي ، نشأت في نعمة فزالت حتى أفضت إلى بيع داري ، وأملقت إلى [غير ] غاية ، فأشير علي بقصد البرامكة ، فخرجت إلى بغداد ومعي نيف وعشرون امرأة وصبيا ، فدخلت بهم إلى [مسجد ] ببغداد ، ثم خرجت وتركتهم جياعا لا نفقة لهم ، فمررت بمسجد فيه جماعة عليهم أحسن زي ، فجلست معهم أردد في صدري ما أخاطبهم به فتحيد نفسي عن ذل السؤال ، فإذا خادم قد أزعج القوم ، فقاموا فقمت معهم ، فدخلوا دارا كبيرة ، فدخلت معهم ، فإذا على دكة وسط بستان ، فجلسوا وجلست ، وكنا مائة [ ص: 147 ] رجل ورجل ، فخرج مائة خادم وخادم ، في يد كل واحد منهم مجمرة ذهب ، فيها قطعة عنبر ، فسجروا العود ، وأقبل يحيى بن خالد يحيى على القاضي فقال زوج ابن عمي هذا بابنتي عائشة فخطب وعقد النكاح ، فأخذنا النثار من فتات المسك وبنادق العنبر وتماثيل الند ، فالتقط الناس والتقط ، ثم جاءنا الخدم في يد كل واحد منهم صينية فضة ، فيها ألف دينار ، مخلوط بالمسك ، فوضع بين يدي كل واحد واحدة ، فأقبل كل واحد يأخذ الدنانير في كمه ، والصينية تحت إبطه ، ويخرج ، فبقيت وحدي ، لا أجسر أفعل ذلك ، فغمزني بعض الخدم وقال : خذها [ وقم ] ، فأخذتها وقمت ، وجعلت أمشي ، وألتفت [خوفا من أن يؤخذ مني ، ] ويحيى يلاحظني من حيث لا أفطن ، فلما قاربت الستر رددت فيئست من الصينية ، فجئت فأمرني بالجلوس ، فجلست فسألني عن حالي فحدثته بقصتي ، فبكى ، ثم قال : علي بموسى . فجاءه ، فقال : يا بني ، هذا رجل من أولاد النعم ، قد رمته الأيام بصرفها ، فخذه واخلطه بنفسك ، فأخذني فخلع علي وأمر لي بحفظ الصينية فكنت في العيش يومي وليلتي ، ثم استدعى [أخاه ] العباس وقال : إن الوزير سلم إلي هذا ، وأريد الركوب إلى دار أمير المؤمنين ، فليكن عندك اليوم . فكان يومي مثل أمسي ، وأقبلوا يتداولوني وأنا قلق بأمر عيالي ، ولا أتجاسر أن أذكرهم ، فلما كان اليوم العاشر أدخلت إلى الفضل بن يحيى ، فأقمت عنده يومي وليلتي ، فلما أصبحت جاءني خادم فقال : قم إلى عيالك وصبيانك . فقلت : إنا لله ، ذهبت الصينية وما فيها ، فيا ليت هذا كان من أول يوم . فقمت والخادم يمشي بين يدي ، فأخرجني من الدار ، فازداد يأسي ، ثم أدخلني إلى دار كأن الشمس تطلع من جوانبها ، وفيها من صنوف الآلات والفرش ، فلما توسطتها رأيت عيالي يرتعون فيها في الديباج والستور ، وقد حمل إليهم مائة ألف درهم ، وعشرة آلاف دينار ، وسلم إلي الخادم صكا بضيعتين جليلتين ، وقال : هذه الدار وما فيها والضياع لك . فأقمت مع البرامكة في أخفض عيش إلى الآن .
[ ص: 148 ] ثم قصدني في الضيعتين ، فألزمني من خراجهما ما لا يفي به دخلهما ، فكلما لحقتني نائبة قصدت دورهم فبكيتهم ، فاستدعى عمرو بن مسعدة عمرو بن مسعدة ، فأمره أن يرد على الرجل ما استخرج منه ، ويقرر خراجه على ما كان في أيام البرامكة . فبكى الرجل بكاء شديدا ، فقال له المأمون : ألم أستأنف لك جميلا ؟ قال : بلى ، ولكن هذا من بركة البرامكة . فقال : امض ، فإن الوفاء مبارك ، وحسن العهد من الإيمان . المأمون