فصل
الحكم الرابع : أنها لا يسقط ، فلا يرجع به عليها ، فإنه إن كان صادقا فقد استحل من فرجها عوض الصداق ، وإن كان كاذبا فأولى وأحرى . صداقها بعد الدخول
فإن قيل : فما تقولون لو أو تقولون يسقط جملة ؟ وقع اللعان قبل الدخول هل تحكمون عليه بنصف المهر
قيل : في ذلك قولان للعلماء ، وهما روايتان عن أحمد مأخذهما : أن الفرقة إذا كانت بسبب من الزوجين كلعانهما ، أو منهما ومن أجنبي كشرائها لزوجها قبل الدخول ، فهل يسقط الصداق تغليبا لجانبها ، كما لو كانت مستقلة بسبب الفرقة ، أو [ ص: 355 ] نصفه تغليبا لجانبه ، وأنه هو المشارك في سبب الإسقاط ، والسيد الذي باعه متسبب إلى إسقاطه ببيعه إياها ؟ فهذا الأصل فيه قولان . وكل فرقة جاءت من قبل الزوج نصفت الصداق كطلاقه ، إلا فسخه لعيبها ، أو فوات شرط شرطه ، فإنه يسقط كله ، وإن كان هو الذي فسخ ؛ لأن سبب الفسخ منها ، وهي الحاملة له عليه . ولو كانت الفرقة بإسلامه فهل يسقط عنه أو تنصفه ؟ على روايتين . فوجه إسقاطه أنه فعل الواجب عليه ، وهي الممتنعة من فعل ما يجب عليها ، فهي المتسببة إلى إسقاط صداقها بامتناعها من الإسلام ، ووجه التنصيف أن سبب الفسخ من جهته .
فإن قيل : فما تقولون في الخلع هل ينصفه أو يسقطه ؟ . قيل : إن قلنا : هو طلاق نصفه ، وإن قلنا : هو فسخ ، فقال أصحابنا : فيه وجهان ؛ أحدهما : كذلك تغليبا لجانبه . والثاني : يسقطه ؛ لأنه لم يستقل بسبب الفسخ ، وعندي أنه إن كان مع أجنبي نصفه وجها واحدا ، وإن كان معها ففيه وجهان .
فإن قيل : فما تقولون لو كانت الفرقة بشرائه لزوجته من سيدها : هل يسقطه أو ينصفه ؟
قيل : فيه وجهان . أحدهما : يسقطه ؛ لأن مستحق مهرها تسبب إلى إسقاطه ببيعها . والثاني : ينصفه ؛ لأن الزوج تسبب إليه بالشراء ، وكل فرقة جاءت من قبلها كردتها وإرضاعها من يفسخ إرضاعه نكاحها ، وفسخها لإعساره أو عيبه ، فإنه يسقط مهرها .
فإن قيل : فقد قلتم : إن المرأة إذا فسخت لعيب في الزوج سقط مهرها ، إذ الفرقة من جهتها ، وقلتم : إن الزوج إذا فسخ لعيب في المرأة سقط أيضا ، ولم تجعلوا الفسخ من جهته فتنصفوه كما جعلتموه لفسخها لعيبه من جهتها فأسقطتموه ، فما الفرق ؟ قيل : الفرق بينهما أنه إنما بذل المهر في مقابلة بضع [ ص: 356 ] سليم من العيوب ، فإذا لم يتبين كذلك وفسخ ، عاد إليها كما خرج منها ، ولم يستوفه ، ولا شيئا منه ، فلا يلزمه شيء من الصداق ، كما أنها إذا فسخت لعيبه لم تسلم إليه المعقود عليه ، ولا شيئا منه ، فلا تستحق عليه شيئا من الصداق .
فصل الحكم الخامس : أنها لا نفقة لها عليه ولا سكنى ، كما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا موافق لحكمه في المبتوتة التي لا رجعة لزوجها عليها ، كما سيأتي بيان حكمه في ذلك ، وأنه موافق لكتاب الله لا مخالف له ، بل سقوط النفقة والسكنى للملاعنة أولى من سقوطها للمبتوتة ؛ لأن المبتوتة له سبيل إلى أن ينكحها في عدتها ، وهذه لا سبيل له إلى نكاحها لا في العدة ولا بعدها ، فلا وجه أصلا لوجوب نفقتها وسكناها ، وقد انقطعت العصمة انقطاعا كليا .
فأقضيته صلى الله عليه وسلم يوافق بعضها بعضا ، وكلها توافق كتاب الله ، والميزان الذي أنزله ليقوم الناس بالقسط ، وهو القياس الصحيح ، كما ستقر عينك إن شاء الله تعالى بالوقوف عليه عن قريب .
وقال مالك : لها السكنى . وأنكر القاضي والشافعي هذا القول إنكارا شديدا . إسماعيل بن إسحاق
وقوله : " من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق ولا متوفى عنها " لا يدل مفهومه على أن كل مطلقة ومتوفى عنها لها النفقة والسكنى ، وإنما يدل على أن هاتين الفرقتين قد يجب معهما نفقة وسكنى ، وذلك إذا كانت المرأة حاملا فلها ذلك في فرقة الطلاق اتفاقا ، وفي فرقة الموت ثلاثة أقوال ؛ أحدها : أنه لا نفقة لها ولا سكنى ، كما لو كان حائلا ، وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى روايتيه ، في أحد قوليه ، لزوال سبب النفقة بالموت على وجه لا يرجى عوده ، فلم يبق إلا نفقة قريب ، فهي في مال الطفل إن كان له مال ، وإلا فعلى من تلزمه نفقته من أقاربه . والشافعي
[ ص: 357 ] والثاني : أن لها النفقة والسكنى في تركته ، تقدم بها على الميراث ، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد ؛ لأن انقطاع العصمة بالموت لا يزيد على انقطاعها بالطلاق البائن ، بل انقطاعها بالطلاق أشد ، ولهذا تغسل المرأة زوجها بعد موته عند جمهور العلماء ، حتى المطلقة الرجعية عند أحمد ومالك في إحدى الروايتين عنه ، فإذا وجبت النفقة والسكنى للبائن الحامل فوجوبها للمتوفى عنها زوجها أولى وأحرى .
والثالث : أن لها السكنى دون النفقة حاملا كانت أو حائلا ، وهذا قول مالك وأحد قولي ؛ إجراء لها مجرى المبتوتة في الصحة ، وليس هذا موضع بسط هذه المسائل وذكر أدلتها والتمييز بين راجحها ومرجوحها ، إذ المقصود أن قوله : " من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفى عنها زوجها " إنما يدل على أن المطلقة والمتوفى عنها قد يجب لهما القوت والبيت في الجملة ، فهذا إن كان هذا الكلام من كلام الصحابي ، والظاهر - والله أعلم - أنه مدرج من قول الشافعي . الزهري