فصل
الحكم الثالث : أن هذه الفرقة توجب تحريما مؤبدا لا يجتمعان بعدها أبدا . قال : حدثنا الأوزاعي الزبيدي ، حدثنا ، عن الزهري فذكر قصة المتلاعنين وقال : سهل بن سعد ، ) ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقال : ( لا يجتمعان [ ص: 352 ] أبدا
وذكر من حديث البيهقي ، عن سعيد بن جبير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ابن عمر ) المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبدا
قال : وروينا عن علي رضي الله عنهم قالا : ( مضت السنة في المتلاعنين أن لا يجتمعا أبدا ) قال : وروي عن وعبد الله بن عباس رضي الله عنه أنه قال : ( يفرق بينهما ولا يجتمعان أبدا ) وإلى هذا ذهب عمر بن الخطاب أحمد والشافعي ومالك والثوري وأبو عبيد وأبو يوسف .
وعن أحمد رواية أخرى : أنه إن أكذب نفسه حلت له وعاد فراشه بحاله ، وهي رواية شاذة شذ بها حنبل عنه . قال أبو بكر : لا نعلم أحدا رواها غيره ، وقال صاحب " المغني " : وينبغي أن تحمل هذه الرواية على ما إذا لم يفرق بينهما . فأما مع تفريق الحاكم بينهما فلا وجه لبقاء النكاح بحاله .
قلت : الرواية مطلقة ، ولا أثر لتفريق الحاكم في دوام التحريم ، فإن الفرقة الواقعة بنفس اللعان أقوى من الفرقة الحاصلة بتفريق الحاكم ، فإذا كان إكذاب نفسه مؤثرا في تلك الفرقة القوية رافعا للتحريم الناشئ منها ، فلأن يؤثر في الفرقة التي هي دونها ، ويرفع تحريمها أولى .
وإنما قلنا : إن ؛ لأن فرقة اللعان تستند إلى حكم الله ورسوله ، سواء رضي الحاكم والمتلاعنان التفريق [ ص: 353 ] أو أبوه ، فهي فرقة من الشارع بغير رضا أحد منهم ولا اختياره ، بخلاف فرقة الحاكم ، فإنه إنما يفرق باختياره . الفرقة بنفس اللعان أقوى من الفرقة بتفريق الحاكم
وأيضا فإن اللعان يكون قد اقتضى بنفسه التفريق ؛ لقوته وسلطانه عليه ، بخلاف ما إذا توقف على تفريق الحاكم ، فإنه لم يقو بنفسه على اقتضاء الفرقة ، ولا كان له سلطان عليها ، وهذه الرواية هي مذهب ، قال : فإن أكذب نفسه فهو خاطب من الخطاب ، ومذهب سعيد بن المسيب أبي حنيفة ومحمد ، وهذا على أصله اطرد ؛ لأن فرقة اللعان عنده طلاق . وقال : إن أكذب نفسه ردت إليه ما دامت في العدة . سعيد بن جبير
والصحيح القول الأول الذي دلت عليه السنة الصحيحة الصريحة ، وأقوال الصحابة رضي الله عنهم ، وهو الذي تقتضيه حكمة اللعان ، ولا تقتضي سواه ، فإن لعنة الله تعالى وغضبه قد حل بأحدهما لا محالة ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عند الخامسة : ( إنها الموجبة ) أي الموجبة لهذا الوعيد ، ونحن لا نعلم عين من حلت به يقينا ، ففرق بينهما خشية أن يكون هو الملعون الذي قد وجبت عليه لعنة الله وباء بها ، فيعلو امرأة غير ملعونة ، وحكمة الشرع تأبى هذا كما أبت أن يعلو الكافر مسلمة والزاني عفيفة .
فإن قيل : فهذا يوجب ألا يتزوج غيرها ؛ لما ذكرتم بعينه ؟ .
قيل : لا يوجب ذلك ؛ لأنا لم نتحقق أنه هو الملعون ، وإنما تحققنا أن أحدهما كذلك ، وشككنا في عينه ، فإذا اجتمعا لزمه أحد الأمرين ولا بد ؛ إما هذا وإما إمساكه ملعونة مغضوبا عليها قد وجب عليها غضب الله وباءت به ، فأما إذا تزوجت بغيره أو تزوج بغيرها لم تتحقق هذه المفسدة فيهما .
وأيضا فإن النفرة الحاصلة من إساءة كل واحد منهما إلى صاحبه لا تزول أبدا ، فإن الرجل إن كان صادقا عليها فقد أشاع فاحشتها وفضحها على رءوس الأشهاد ، وأقامها مقام الخزي ، وحقق عليها الخزي والغضب ، وقطع نسب [ ص: 354 ] ولدها ، وإن كان كاذبا فقد أضاف إلى ذلك بهتها بهذه الفرية العظيمة ، وإحراق قلبها بها ، والمرأة إن كانت صادقة فقد أكذبته على رءوس الأشهاد وأوجبت عليه لعنة الله . وإن كانت كاذبة فقد أفسدت فراشه وخانته في نفسها ، وألزمته العار والفضيحة ، وأحوجته إلى هذا المقام المخزي ، فحصل لكل واحد منهما من صاحبه من النفرة والوحشة وسوء الظن ما لا يكاد يلتئم معه شملهما أبدا ، فاقتضت حكمة من شرعه كله حكمة ومصلحة وعدل ورحمة تحتم الفرقة بينهما وقطع الصحبة المتمحضة مفسدة .
وأيضا فإنه إذا كان كاذبا عليها فلا ينبغي أن يسلط على إمساكها مع ما صنع من القبيح إليها ، وإن كان صادقا فلا ينبغي أن يمسكها مع علمه بحالها ويرضى لنفسه أن يكون زوج بغي .
فإن قيل : فما تقولون لو كانت أمة ثم اشتراها ، هل يحل له وطؤها بملك اليمين ؟
قلنا : لا تحل له ؛ لأنه تحريم مؤبد ، فحرمت على مشتريها كالرضاع ، ولأن المطلق ثلاثا إذا اشترى مطلقته لم تحل له قبل زوج وإصابة ، فهاهنا أولى ؛ لأن هذا التحريم مؤبد ، وتحريم الطلاق غير مؤبد .