فصل
ومن شهادته أيضا : ما أودعه في قلوب عباده : من التصديق الجازم ، واليقين الثابت ، والطمأنينة بكلامه ووحيه ، فإن العادة تحيل حصول ذلك بما هو من أعظم الكذب ، والافتراء على رب العالمين ، والإخبار عنه بخلاف ما هو عليه من أسمائه وصفاته ، بل ذلك يوقع أعظم الريب والشك ، وتدفعه الفطر والعقول السليمة ، كما تدفع الفطر - التي فطر عليها الحيوان - الأغذية الخبيثة الضارة التي لا تغذي ، كالأبوال والأنتان ، فإن الله سبحانه فطر القلوب على قبول الحق والانقياد له ، والطمأنينة به ، والسكون إليه ومحبته ، وفطرها على بغض الكذب والباطل ، والنفور عنه ، والريبة به ، وعدم السكون إليه ، ولو بقيت الفطر على حالها لما آثرت على الحق سواه ، ولما سكنت إلا إليه ، ولا اطمأنت إلا به ، ولا أحبت غيره ، ولهذا ندب الله عز وجل عباده إلى تدبر القرآن ، فإن كل من تدبره أوجب له تدبره علما ضروريا ويقينا جازما : أنه حق وصدق ، بل أحق كل الحق ، وأصدق كل صدق ، وأن الذي جاء به أصدق خلق الله ، وأبرهم ، وأكملهم علما وعملا ، ومعرفة ، كما قال تعالى : أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وقال تعالى : أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها فلو رفعت الأقفال عن القلوب لباشرتها حقائق القرآن ، واستنارت فيها مصابيح الإيمان ، وعلمت علما ضروريا يكون عندها كسائر الأمور الوجدانية - من الفرح ، والألم ، والحب ، والخوف - أنه من عند الله ، تكلم به حقا ، وبلغه رسوله جبريل عنه إلى رسوله محمد ، فهذا الشاهد في القلب من أعظم الشواهد ، وبه احتج هرقل على أبي سفيان حيث قال له : فهل يرتد أحد منهم سخطة [ ص: 438 ] لدينه ، بعد أن يدخل فيه ؟ فقال : لا ، فقال له : وكذلك الإيمان إذا خالطت حلاوته بشاشة القلوب لا يسخطه أحد ، وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى في قوله : بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وقوله : وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به وقوله ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق وقوله : أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى وقوله : ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب يعني : أن الآية التي يقترحونها لا توجب هداية ، بل الله هو الذي يهدي ويضل ، ثم نبههم على أعظم آية وأجلها ، وهي : طمأنينة قلوب المؤمنين بذكره الذي أنزله ، فقال : الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله أي بكتابه وكلامه : ألا بذكر الله تطمئن القلوب فطمأنينة القلوب الصحيحة ، والفطر السليمة به ، وسكونها إليه من أعظم الآيات ؛ إذ يستحيل في العادة أن تطمئن القلوب وتسكن إلى الكذب والافتراء والباطل .
فإن قيل : فلم ؟ لم يذكر الله سبحانه شهادة رسله مع الملائكة ، فيقول : شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة والرسل ، وهم أعظم شهادة من أولي العلم
قيل : في ذلك عدة فوائد .
إحداها : أن أولي العلم أعم من الرسل والأنبياء فيدخلون هم وأتباعهم .
وثانيها : أن في ذكر أولي العلم في هذه الشهادة ، وتعليقها بهم : ما يدل على أنها من موجبات العلم ومقتضياته ، وأن من كان من أولي العلم فإنه يشهد بهذه الشهادة ، كما يقال : إذا طلع الهلال واتضح ، فإن كل من كان من أهل النظر يراه ، وإذا فاحت رائحة ظاهرة ، فكل من كان من أهل الشم يشم هذه الرائحة ، قال تعالى : وبرزت الجحيم لمن يرى أي كل من له رؤية يراها حينئذ عيانا ، ففي هذا بيان أن من لم يشهد له الله سبحانه بهذه الشهادة فهو من أعظم الجهال ، وإن علم من [ ص: 439 ] أمور الدنيا ما لم يعلمه غيره ، فهو من أولي الجهل ، لا من أولي العلم ، وقد بينا أنه لم يقم بهذه الشهادة ، ويؤديها على وجهها إلا اتباع الرسل أهل الإثبات ، فهم أولو العلم ، وسائر من عداهم أولو الجهل ، وإن وسعوا القول وأكثروا الجدال .
ومنها : الشهادة من الله سبحانه لأهل هذه الشهادة أنهم أولو العلم ، فشهادته لهم أعدل وأصدق من شهادة الجهمية والمعطلة والفرعونية لهم بأنهم جهال ، وأنهم حشوية ، وأنهم مشبهة ، وأنهم مجسمة ونوابت ونواصب ، فكفاهم أصدق الصادقين لهم بأنهم من أولي العلم إذ شهدوا له بحقيقة ما شهد به لنفسه ، من غير تحريف ولا تعطيل ، وأثبتوا له حقيقة هذه الشهادة ومضمونها ، وخصومهم نفوا عنه حقائقها ، وأثبتوا له ألفاظها ومجازاتها .