فصل
وأما التقدير الثاني - وهو أن يكون حالا مما بعد إلا - فالمعنى : أنه لا إله إلا هو قائما بالعدل ، فهو وحده المستحق الإلهية ، مع كونه قائما بالقسط ، قال شيخنا : وهذا التقدير أرجح ، فإنه يتضمن : أن الملائكة وأولي العلم يشهدون له بأنه لا إله إلا هو ، وأنه قائم بالقسط . قوله : " قائما "
قلت : مراده أنه إذا كان قوله قائما بالقسط حالا من المشهود به ، فهو كالصفة له ، فإن الحال صفة في المعنى لصاحبها ، فإذا وقعت الشهادة على ذي الحال وصاحبها كان كلاهما مشهودا به ، فيكون الملائكة وأولو العلم قد شهدوا بأنه قائم بالقسط ، كما شهدوا بأنه لا إله إلا هو ، والتقدير الأول لا يتضمن ذلك ، فإنه إذا كان التقدير : شهد الله - قائما بالقسط - أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم يشهدون أنه لا إله إلا هو : كان القيام بالقسط حالا من اسم الله وحده .
وأيضا فكونه قائما بالقسط فيما شهد به أبلغ من كونه حالا من مجرد الشهادة .
فإن قيل : فإذا كان حالا من " هو " فهلا اقترن به ؟ ولم فصل بين صاحب الحال وبينها بالمعطوف ، فجاء متوسطا بين صاحب الحال وبينها ؟
قلت : فائدته ظاهرة ، فإنه لو قال : شهد الله أنه لا إله إلا هو قائما بالقسط والملائكة وأولو العلم; لأوهم عطف الملائكة وأولي العلم على الضمير في قوله قائما بالقسط [ ص: 427 ] ولا يحسن العطف لأجل الفصل ، وليس المعنى على ذلك قطعا ، وإنما المعنى على خلافه ، وهو أن قيامه بالقسط مختص به ، كما أنه مختص بالإلهية ، فهو وحده الإله المعبود المستحق العبادة ، وهو وحده المجازي المثيب المعاقب بالعدل .
قوله : " لا إله إلا هو " ، ذكر أنه قال : الأولى وصف وتوحيد ، والثانية : رسم وتعليم ، أي قولوا : لا إله إلا هو ، ومعنى هذا : أن الأولى تضمنت أن الله سبحانه شهد بها وأخبر بها ، والتالي للقرآن إنما يخبر عن شهادته هو ، وليس في ذلك شهادة من التالي نفسه ، فأعاد سبحانه ذكرها مجردة ليقولها التالي ، فيكون شاهدا هو أيضا . محمد بن جعفر
وأيضا فالأولى : خبر عن الشهادة بالتوحيد ، والثانية : خبر عن نفس التوحيد ، وختم بقوله : العزيز الحكيم فتضمنت الآية توحيده وعدله ، وعزته وحكمته ، فالتوحيد : يتضمن ثبوت صفات كماله ، ونعوت جلاله ، وعدم المماثل له فيها وعبادته وحده لا شريك له ، والعدل يتضمن وضعه الأشياء موضعها ، وتنزيلها منازلها ، وأنه لم يخص شيئا منها إلا بمخصص اقتضى ذلك ، وأنه لا يعاقب من لا يستحق العقوبة ، ولا يمنع من يستحق العطاء ، وإن كان هو الذي جعله مستحقا ، والعزة تتضمن كمال قدرته وقوته وقهره ، والحكمة تتضمن كمال علمه ، وخبرته ، وأنه أمر ونهى ، وخلق وقدر ، لما له في ذلك من الحكم والغايات الحميدة التي يستحق عليها كمال الحمد .
فاسمه العزيز يتضمن الملك ، واسمه الحكيم يتضمن الحمد ، وأول الآية يتضمن التوحيد ، وذلك حقيقة لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، وذلك أفضل ما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والنبيون من قبله ، والحكيم الذي إذا أمر بأمر كان حسنا في نفسه وإذا نهى عن شيء كان قبيحا في نفسه ، وإذا أخبر بخبر كان صدقا ، وإذا فعل فعلا كان صوابا ، وإذا أراد شيئا كان أولى بالإرادة من غيره ، وهذا الوصف على الكمال لا يكون إلا لله وحده .
فتضمنت هذه الآية وهذه الشهادة : الدلالة على وحدانيته المنافية للشرك ، وعدله المنافي للظلم ، وعزته المنافية للعجز ، وحكمته المنافية للجهل والعيب ، ففيها الشهادة له بالتوحيد ، والعدل ، والقدرة والعلم والحكمة ، ولهذا كانت أعظم شهادة .
[ ص: 428 ] ولا يقوم لهذه الشهادة على وجهها من جميع الطوائف إلا أهل السنة ، وسائر طوائف أهل البدع لا يقومون بها ، فالفلاسفة أشد الناس إنكارا وجحودا لمضمونها ، من أولها إلى آخرها ، وطوائف الاتحادية : هم أبعد خلق الله عنها من كل وجه ، وطائفة الجهمية تنكر حقيقتها من وجوه :
منها : أن الإله هو الذي تألهه القلوب ، محبة له ، واشتياقا إليه ، وإنابة ، وعندهم : أن الله لا يحب ولا يحب .
ومنها : أن الشهادة كلامه وخبره عما شهد به ، وهو عندهم لا يقول ولا يتكلم ، ولا يشهد ولا يخبر .
ومنها : أنها تتضمن مباينته لخلقه بذاته وصفاته ، وعند فرعونيهم : أنه لا يباين الخلق ولا يحايثهم ، وليس فوق العرش إله يعبد ، ولا رب يصلى له ويسجد .
وعند حلوليتهم : أنه حال في كل مكان بذاته ، حتى في الأمكنة التي يستحيى من ذكرها ، فهؤلاء مثبتة الجهمية ، وأولئك نفاتهم .
ومنها : أن قيامه بالقسط في أفعاله وأقواله ، وعندهم : أنه لم يقم ولا يقوم به فعل ولا قول البتة ، وأن قوله : مخلوق من بعض المخلوقات ، وفعله هو المفعول المنفصل ، وأما أن يكون له فعل يكون به فاعلا حقيقة : فلا .
ومنها : أن القسط عندهم لا حقيقة له ، بل كل ممكن فهو قسط ، وليس في مقدوره ما يكون ظلما وقسطا ، بل الظلم عندهم هو المحال الممتنع لذاته ، والقسط هو الممكن ، فنزه الله سبحانه نفسه - على قولهم - عن المحال الممتنع لذاته الذي لا يدخل تحت القدرة .
ومنها : أن العزة هي القوة والقدرة ، وعندهم لا يقوم به صفة ، ولا له صفة وقدرة تسمى قدرة وقوة .
ومنها : أن الحكمة هي الغاية التي يفعل لأجلها ، وتكون هي المطلوبة بالفعل ، ويكون وجودها أولى من عدمها ، وهذا عندهم ممتنع في حقه سبحانه ، فلا يفعل لحكمة ولا غاية ، بل لا غاية لفعله ولا أمره ، وما ثم إلا محض المشيئة المجردة عن الحكمة والتعليل .
ومنها : أن الإله هو الذي له الأسماء الحسنى ، والصفات العلى ، وهو الذي يفعل بقدرته ومشيئته وحكمته ، وهو الموصوف بالصفات والأفعال ، المسمى بالأسماء [ ص: 429 ] التي قامت بها حقائقها ومعانيها ، وهذا لا يثبته على الحقيقة إلا أتباع الرسل ، وهم أهل العدل والتوحيد .