قال صاحب المنازل ( باب الاتصال ) قال الله تعالى : ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى آيس العقول ، فقطع البحث بقوله : " أو أدنى " .
كأن الشيخ فهم من الآية : أن الذي دنى فتدلى فكان من محمد صلى الله عليه وسلم قاب قوسين أو أدنى : هو الله عز وجل ، وهذا وإن قاله جماعة من المفسرين فالصحيح : أن ذلك هو جبريل عليه الصلاة والسلام ، فهو الموصوف بما ذكره من أول السورة إلى قوله : ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى هكذا فسره النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ، قالت عائشة رضي الله عنها : جبريل ، لم أره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين ولفظ القرآن لا يدل على غير ذلك من وجوه . سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية ؟ فقال :
أحدها : أنه قال علمه شديد القوى وهذا جبريل الذي وصفه الله بالقوة في سورة التكوير ، فقال : إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين .
الثاني : أنه قال : ذو مرة أي : حسن الخلق ، وهو الكريم المذكور في التكوير .
الثالث : أنه قال : فاستوى وهو بالأفق الأعلى وهو ناحية السماء العليا ، وهذا استواء جبريل بالأفق الأعلى ، وأما استواء الرب جل جلاله فعلى عرشه .
الرابع : أنه قال : ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فهذا دنو جبريل وتدليه إلى الأرض ، حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأما ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان فوق السماوات . فهناك دنا الجبار جل جلاله منه وتدلى . [ ص: 301 ] فالدنو والتدلي في الحديث غير الدنو والتدلي في الآية ، وإن اتفقا في اللفظ . الدنو والتدلي في حديث المعراج
الخامس : أنه قال : ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى والمرئي عند السدرة : هو جبريل قطعا ، وبهذا فسره النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لعائشة جبريل . ذاك
السادس : أن مفسر الضمير في قوله : ولقد رآه ، وفي قوله : ثم دنا فتدلى ، وفي قوله : فاستوى ، وفي قوله : وهو بالأفق الأعلى واحد ، فلا يجوز أن يخالف بين المفسر والمفسر من غير دليل .
السابع : أنه سبحانه ذكر في هذه السورة الرسولين الكريمين : الملكي ، والبشري ، ونزه البشري عن الضلال والغواية ، ونزه الملكي عن أن يكون شيطانا قبيحا ضعيفا ، بل هو قوي كريم حسن الخلق ، وهذا نظير الوصف المذكور في سورة التكوير سواء .
الثامن : أنه أخبر هناك أنه رآه بالأفق المبين وهاهنا أخبر أنه رآه بالأفق الأعلى وهو واحد ، وصف بصفتين ، فهو مبين وهو أعلى ، فإن الشيء كلما علا بان وظهر .
التاسع : أنه قال : ذو مرة والمرة الخلق الحسن المحكم ، فأخبر عن حسن خلق الذي علم النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم ساق الخبر كله عنه نسقا واحدا .
العاشر : أنه لو كان خبرا عن الرب تعالى لكان القرآن قد دل على أن : مرة بالأفق ، ومرة عند السدرة ، ومعلوم أن الأمر لو كان كذلك لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر وقد سأله : رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه سبحانه مرتين فكيف يخبر القرآن أنه رآه مرتين ، ثم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هل رأيت ربك ؟ فقال : نور أنى أراه ؟ " وهذا أبلغ من قوله : لم أره ؛ لأنه مع النفي يقتضي الإخبار عن عدم الرؤية فقط ، وهذا يتضمن النفي ، وطرفا من الإنكار على السائل ، كما إذا قال لرجل : هل كان كيت وكيت ؟ فيقول : كيف يكون ذلك ؟ أنى أراه ؟
[ ص: 302 ] الحادي عشر : أنه لم يتقدم للرب جل جلاله ذكر يعود الضمير عليه في قوله : ثم دنا فتدلى والذي يعود الضمير عليه لا يصلح له ، وإنما هو لعبده .
الثاني عشر : أنه كيف يعود الضمير إلى ما لم يذكر ، ويترك عوده إلى المذكور مع كونه أولى به ؟
الثالث عشر : أنه قد تقدم ذكر " صاحبكم " وأعاد عليه الضمائر التي تليق به ، ثم ذكر بعده " شديد القوى ذو مرة " وأعاد عليه الضمائر التي تليق به ، والخبر كله عن هذين المفسرين ، وهما الرسول الملكي ، والرسول البشري .
الرابع عشر : أنه سبحانه أخبر أن هذا الذي دنا فتدلى كان بالأفق الأعلى وهو أفق السماء ، بل هو تحتها قد دنا من رسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم ، ودنو الرب تعالى وتدليه على ما في حديث شريك كان من فوق العرش لا إلى الأرض .
الخامس عشر : أنهم لم يماروه صلوات الله وسلامه عليه على رؤية ربه ، ولا أخبرهم بها ، لتقع مماراتهم له عليها ، وإنما ماروه على رؤية ما أخبرهم من الآيات التي أراه الله إياها ، ولو أخبرهم الرب تعالى لكانت مماراتهم له عليها أعظم من مماراتهم على رؤية المخلوقات .
السادس عشر : أنه سبحانه قرر صحة ما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأن مماراتهم له على ذلك باطلة بقوله : لقد رأى من آيات ربه الكبرى ، فلو كان المرئي هو الرب سبحانه وتعالى ، والمماراة على ذلك منهم ، لكان تقرير تلك الرؤية أولى ، والمقام إليها أحوج ، والله أعلم .
قوله : " آيس العقول بقوله : أو أدنى " يعني : أن العقول لا تقدر أن تثبت على معرفة اتصال هو أدنى من قاب قوسين ، وهذا بناء على ما فهمه من الآية ، وإلا فالعقول غير آيسة من دنو رسوله الملكي من رسوله البشري ، حتى صار في القرب منه قاب قوسين أو أدنى من قوسين ، فإنه دنو عبد من عبد ، ومخلوق من مخلوق .
يبقى أن يقال : فما فائدة ذكر " أو " ؟ فيقال : هي لتقرير المذكور قبلها ، وأن القرب إن لم ينقص عن قدر قوسين لم يزد عليهما ، وهذا كقوله : وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون والمعنى : أنهم إن لم يزيدوا على المائة الألف لم ينقصوا عنها . [ ص: 303 ] فهو تقرير لنصية عدد المائة الألف ، فتأمله .
قال : والاتصال ثلاث درجات ، الدرجة الأولى : اتصال الاعتصام ، ثم اتصال الشهود ، ثم اتصال الوجود ، واتصال الاعتصام : تصحيح القصد ، ثم تصفية الإرادة ، ثم تحقيق الحال .
أما القسمان الأولان وهما اتصال الاعتصام ، واتصال الشهود فلا إشكال فيهما ، فإنهما مقاما الإيمان والإحسان ، فاتصال الاعتصام مقام الإيمان ، واتصال الشهود مقام الإحسان .
وعندي : أنه ليس وراء ذلك مرمى ، وكل ما يذكر بعد ذلك من اتصال صحيح فهو من مقام الإحسان ، فاتصال الوجود لا حقيقة له ، ولكن لا بد من ذكر مراد الشيخ وأهل الاستقامة بهذا الاتصال ، ومراد أهل الإلحاد القائلين بوحدة الوجود منه ، إذا انتهينا إلى ذكره إن شاء الله .
فأما اتصال الاعتصام : فقد قال الله تعالى : واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير ، وقال تعالى : ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم ، وقال تعالى : إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله ، وقال : واعتصموا بحبل الله جميعا .
: اعتصام توكل واستعانة وتفويض ولجء وعياذ ، وإسلام النفس إليه ، والاستسلام له سبحانه . فالاعتصام به نوعان
والثاني : اعتصام بوحيه ، وهو تحكيمه دون آراء الرجال ومقاييسهم ، ومعقولاتهم ، وأذواقهم وكشوفاتهم ومواجيدهم ، فمن لم يكن كذلك فهو منسل من هذا الاعتصام ، فالدين كله في الاعتصام به وبحبله ، علما وعملا ، وإخلاصا واستعانة ، ومتابعة ، واستمرارا على ذلك إلى يوم القيامة .
قوله : " ثم اتصال الشهود " وتقدم ذكر المشاهدة قريبا ، وبينا أن المشاهدة هي [ ص: 304 ] تحقق مقام الإحسان ، فالاتصال الأول اتصال العلم والعمل ، والثاني اتصال الحال والمعرفة .
قوله : " ثم اتصال الوجود " الوجود : الظفر بحقيقة الشيء ، ومعاذ الله أن يريد الشيخ : أن وجود العبد يتصل بوجود الرب ، فيصير الكل وجودا واحدا ، كما يظنه الملحد ، فإن كفر النصارى جزء يسير من هذا الكفر ، وهو أيضا كلام لا معنى له ، فإن العبد بل لا عبد في الحقيقة عندهم لم يزل كذلك ، ولو كان أفسد الخلق وأفجرهم ، فنفس وجوده متصل بوجود ربه ، بل هو عين وجوده ، بل لا رب عندهم ولا عبد .
وإنما يريد الشيخ باتصال الوجود : أن العبد يجد ربه بعد أن كان فاقدا له ، فهو بمنزلة من كان يطلب كنزا ولا وصول له إليه ، فظفر به بعد ذلك ووجده واستغنى به غاية الغنى ، فهذا اتصال الوجود ، كما في الأثر اطلبني تجدني ، فإن وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتك فاتك كل شيء .
وهذا يتنوع بحسب أحوال العبد ومقامه ، فإن التائب الصادق في توبته إذا تاب إليه ، وجده غفورا رحيما ، والمتوكل إذا صدق في التوكل عليه وجده حسيبا كافيا ، والداعي إذا صدق في الرغبة إليه وجده قريبا مجيبا ، والمحب إذا صدق في محبته وجده ودودا حبيبا ، والملهوف إذا صدق في الاستغاثة به وجده كاشفا للكرب مخلصا منه ، والمضطر إذا صدق في الاضطرار إليه وجده رحيما مغيثا ، والخائف إذا صدق في اللجء إليه وجده مؤمنا من الخوف ، والراجي إذا صدق في الرجاء وجده عند ظنه به . الوجود من العبد لربه
فمحبه وطالبه ومريده الذي لا يبغي به بدلا ، ولا يرضى بسواه عوضا ، إذا صدق في محبته وإرادته وجده أيضا وجودا أخص من تلك الوجودات ، فإنه إذا كان المريد منه يجده ، فكيف بمريده ومحبه ؟ فيظفر هذا الواجد بنفسه وبربه .
أما ظفره بنفسه فتصير منقادة له ، مطيعة له ، تابعة لمرضاته غير آبية ، ولا أمارة ، بل تصير خادمة له مملوكة بعد أن كانت مخدومة مالكة .
وأما ظفره بربه فقربه منه وأنسه به ، وعمارة سره به ، وفرحه وسروره به أعظم فرح وسرور ، فهذا حقيقة اتصال الوجود ، والله المستعان .
قوله : فاتصال الاعتصام : تصحيح القصد ، ثم تصفية الإرادة ، ثم تحقيق الحال .
[ ص: 305 ] قلت : تصحيح القصد يكون بشيئين ؛ إفراد المقصود ، وجمع الهم عليه ، وحقيقته توحيد القصد والمقصود ، فمتى انقسم قصده أو مقصوده لم يكن صحيحا ، وقد عبر عنه الشيخ فيما تقدم بأنه " قصد يبعث على الارتياض ، ويخلص من التردد ، ويدعو إلى مجانبة الأعواض " فالاتصال في هذه الدرجة بهذا القصد .
وقوله : " ثم تصفية الإرادة " هو تخليصها من الشوائب وتعلقها بالسوى أو بالأعواض ، بل تكون إرادة صافية من ذلك كله ، بحيث تكون متعلقة بالله وبمراده الديني الشرعي ، كما تقدم بيانه .
قوله : " ثم تحقيق الحال " أي : يكون له حال محقق ثابت ، لا يكتفي بمجرد العلم حتى يصحبه العمل ، ولا بمجرد العمل حتى يصحبه الحال ، فتصير الإرادة والمحبة والإنابة والتوكل وحقائق الإيمان حالا لقلبه ، قد انصبغ قلبه بها ، بحيث لو تعطلت جوارحه كان قلبه في العمل والسير إلى الله ، وربما يكون عمل قلبه أقوى من عمل جوارحه .
قوله : الدرجة الثانية : اتصال الشهود ، وهو الخلاص من الاعتلال ، والغنى عن الاستدلال ، وسقوط شتات الأسرار .
الاعتلال هو العوائق والعلل ، والخلاص منها هو الصحة ، ولهذا كانت هذه الدرجة أعلى مما قبلها ، فإن الأولى : اتصال بصحة القصود والأعمال ، وهذه اتصال برؤية من العمل له ، على تحقيق مشاهدته بالبصيرة ، فيتخلص العبد بذلك من علل الأعمال واستكثارها ، واستحسانها والسكون إليها .
قوله : " والغنى على الاستدلال " أي : هو مستغن بمشاهدة المدلول عليه عن طلب الدليل ، فإن طالب الدليل إنما يطلبه ليصل به إلى معرفة المدلول ، فإذا كان مشاهدا للمدلول ، فما له ولطلب الدليل ؟
وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
فكيف يحتاج إلى إقامة الدليل عليه ، من النهار بعض آياته الدالة عليه ؟ ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر ولهذا خاطب الرسل قومهم خطاب من لا يشك [ ص: 306 ] في ربه ولا يرتاب في وجوده قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض .قوله : " وسقوط شتات الأسرار " يعني : أن الخلاص من الاعتلال والفناء باتصال الشهود عن الاستدلال يسقطان عنه شتات الأسرار ، وهو تفرق باله وتشتت قلبه في الأكوان ، فإن اتصال شهوده يجمعه على المشهود ، كما أن دوام الذكر الذي تواطأ عليه القلب واللسان وشهود المذكور يجمعه عليه ، ويسقط شتاته ، فالشتات مصحوب الغيبة ، وسقوطه مصحوب الحضور ، والله المستعان .
قوله : الدرجة الثالثة : اتصال الوجود ، وهذا الاتصال لا يدرك منه نعت ولا مقدار ، إلا اسم معار ، ولمح إليه مشار ، يقول : لما يعهد في هذا النوع من الاتصال وكان أعز شيء وأغربه عن النفوس علما وحالا لم تف العبارة بكشفه ، فإن اللفظ لملوم والعبارة فتانة ، إما أن تزيغ إلى زيادة مفسدة أو نقص مخل ، أو تعدل بالمعنى إلى غيره ، فيظن أنه هو الذي تمكن العبارة عنه ، من ذلك أنه غلبه نور القرب ، وتمكن المحبة ، وقوة الأنس ، وكمال المراقبة ، واستيلاء الذكر القلبي ، فيذهب العبد عن إدراكه بحاله لما قهره من هذه الأمور ، فيبقى بوجود آخر غير وجوده الطبيعي .
وما أظنك تصدق بهذا ، وأنه يصير له وجود آخر ، وتقول : هذا خيال ووهم ، فلا تعجل بإنكار ما لم تحط بعلمه ، فضلا عن ذوق حاله ، وأعط القوس باريها ، وخل المطايا وحاديها ، فلو أنصفت لعرفت أن الوجود الحاصل لمعذب مضيق عليه في أسوأ حال ، وأضيق سجن ، وأنكد عيش ، إذا فارق هذه الحال ، وصار إلى ملك هني واسع ، نافذة فيه كلمته مطاع أمره ، قد انقادت له الجيوش ، واجتمعت عليه الأمة ، فإن وجوده حينئذ غير الوجود الذي كان فيه ، وهذا تشبيه على التقريب ، وإلا فالأمر أعظم من ذلك وأعظم ، فلهذا قال : " لا يدرك منه نعت " يطابقه ويحيط به ، فإن الأمور العظيمة جدا نعتها لا يكشف حقيقتها على ما هي عليه ، وليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء ، وإنما نذكر بعض لوازمها ومتعلقاتها ، فيدل بالمذكور على غيره .
قوله : " ولا مقدار " يريد : مقدار الشرف والمنزلة ، كما تقول : فلان كبير المقدار .
[ ص: 307 ] قوله : إلا اسم معار ولمح إليه مشار . لما كان الاسم لا يبلغ الحقيقة ولا يطابقها ، فكأنه لغيرها ، وأعير إطلاقه عليها عارية ، وكذلك اللمح المشار هو الذي يشار به إشارة إلى الحقيقة ،
وبعد ، فالشيخ يدندن حول بحر الفناء ، وكأنه يقول : صاحب هذا الاتصال قد فني في الوجود ، بحيث صار نقطة انحل تعينها ، واضمحل تكونها ، ورجح عودها على بدئها ، ففني من لم يكن ، وبقي من لم يزل ، فهنالك طاحت الإشارات ، وذهبت العبارات ، وفنيت الرسوم وعنت الوجوه للحي القيوم .