المرتبة السادسة : . وضعف الإرادة والطلب : من ضعف حياة القلب ، وكلما كان القلب أتم حياة ، كانت همته أعلى وإرادته ومحبته أقوى ، فإن الإرادة والمحبة تتبع الشعور بالمراد المحبوب ، وسلامة القلب من الآفة التي تحول بينه وبين طلبه وإرادته ، فضعف الطلب ، وفتور الهمة إما من نقصان الشعور والإحسان ، وإما من وجود الآفة المضعفة للحياة ، فقوة الشعور ، وقوة الإرادة دليل على قوة الحياة ، وضعفها دليل على ضعفها ، وكما أن علو الهمة ، وصدق الإرادة والطلب من كمال الحياة : فهو سبب إلى حصول أكمل الحياة وأطيبها ، فإن الحياة الطيبة إنما تنال بالهمة العالية ، والمحبة الصادقة ، والإرادة الخالصة ، فعلى قدر ذلك تكون الحياة الطيبة ، وأخس الناس حياة أخسهم همة ، وأضعفهم محبة وطلبا ، وحياة البهائم خير من حياته . كما قيل : حياة الإرادة والهمة
نهارك يا مغرور سهو وغفلة وليلك نوم والردى لك لازم وتكدح فيما سوف تنكر غبه
كذلك في الدنيا تعيش البهائم تسر بما يفنى وتفرح بالمنى
كما غر باللذات في النوم حالم
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها
[ ص: 248 ] وهل أفسد الدين إلا الملو ك وأحبار سوء ورهبانها
وباعوا النفوس ولم يربحوا ولم يغل في البيع أثمانها
فقد رتع القوم في جيفة يبين لذي اللب خسرانها
وكما أن الله سبحانه جعل حياة البدن بالطعام والشراب ، فحياة القلب بدوام الذكر ، والإنابة إلى الله ، وترك الذنوب ، والغفلة الجاثمة على القلب ، والتعلق بالرذائل والشهوات المنقطعة عن قريب يضعف هذه الحياة ، ولا يزال الضعف يتوالى عليه حتى يموت ، وعلامة موته : أنه لا يعرف معروفا ، ولا ينكر منكرا ، كماقال أتدرون من ميت القلب الذي قيل فيه : عبد الله بن مسعود
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء
والرجل : هو الذي يخاف موت قلبه ، لا موت بدنه ، إذ أكثر هؤلاء الخلق يخافون موت أبدانهم ، ولا يبالون بموت قلوبهم ، ولا يعرفون من الحياة إلا الحياة الطبيعية ، وذلك من موت القلب والروح ، فإن هذه الحياة الطبيعية شبيهة بالظل الزائل ، والنبات السريع الجفاف ، والمنام الذي يخيل كأنه حقيقة ، فإذا استيقظ عرف أنه كان خيالا ، كما قال رضي الله عنه : لو أن الحياة الدنيا من أولها إلى آخرها أوتيها رجل واحد ، ثم جاءه الموت : لكان بمنزلة من رأى في منامه ما يسره ثم استيقظ ، فإذا ليس في يده شيء . وقد قيل : إن الموت موتان : موت إرادي ، وموت طبيعي ، فمن أمات نفسه موتا إراديا كان موته الطبيعي حياة له ، ومعنى هذا أن الموت الإرادي : هو قمع الشهوات المردية ، وإخماد نيرانها المحرقة ، وتسكين هوائجها المتلفة ، فحينئذ يتفرغ القلب والروح للتفكر فيما فيه كمال العبد ، ومعرفته ، والاشتغال به . ويرى حينئذ أن إيثار الظل الزائل عن قريب على العيش اللذيذ الدائم أخسر الخسران ، فأما إذا كانت الشهوات وافدة ، واللذات مؤثرة ، والعوائد غالبة ، والطبيعة حاكمة ، فالقلب حينئذ إما أن يكون أسيرا ذليلا ، أو مهزوما مخرجا عن وطنه ومستقره الذي لا قرار له إلا فيه أو قتيلا ميتا ، وما لجرح به إيلام ، وأحسن أحواله : أن يكون في [ ص: 249 ] حرب ، يدال له فيها مرة ، ويدال عليه مرة ، فإذا مات العبد موته الطبيعي ، كانت بعده حياة روحه بتلك العلوم النافعة ، والأعمال الصالحة ، والأحوال الفاضلة التي حصلت له بإماتة نفسه ، فتكون حياته هاهنا على حسب موته الإرادي في هذه الدار . عمر بن الخطاب
وهذا موضع لا يفهمه إلا ألباء الناس وعقلاؤهم ، ولا يعمل بمقتضاه إلا أهل الهمم العلية ، والنفوس الزكية الأبية .