قال : الدرجة الثالثة : ، وهي غربة العارف ؛ لأن العارف في شاهده غريب ، ومصحوبه في شاهده غريب ، وموجوده لا يحمله علم أو يظهره وجد ، أو يقوم به رسم ، أو تطيقه إشارة ، أو يشمله اسم غريب ، فغربة العارف غربة الغربة ؛ لأنه غريب الدنيا والآخرة . غربة الهمة ، وهي غربة طلب الحق
إنما كانت هذه الدرجة أعلى مما قبلها ؛ لأن الغربة الأولى غربة بالأبدان . والثانية : غربة بالأفعال والأحوال . وهذه الثالثة : غربة بالهمم . فإن همة العارف حائمة حول معروفه ، فهو غريب في أبناء الآخرة ، فضلا عن أبناء الدنيا ، كما أن طالب الآخرة غريب في أبناء الدنيا .
قوله : " لأن العارف في شاهده غريب " شاهد العارف : هو الذي يشهد عنده وله بصحة ما وجد وأنه كما وجد ، وبثبوت ما عرف وأنه كما عرف .
وهذا الشاهد : أمر يجده من قلبه ، وهو قربه من الله ، وأنسه به ، وشدة شوقه إلى لقائه وفرحه به ، فهذا شاهده في سره وقلبه .
وله شاهد في حاله وعمله ، يصدق هذا الشاهد الذي في قلبه .
وله شاهد في قلوب الصادقين ، يصدق هذين الشاهدين ، فإن قلوب الصادقين لا تشهد بالزور ألبتة ، فإذا أخفي عليك شأنك وحالك ، فاسأل عنك قلوب الصادقين ؛ فإنها تخبرك عن حالك .
قوله : " ومصحوبه في شاهده غريب " مصحوبه في شاهده ؛ هو الذي يصحبه فيه من العلم والعمل والحال ، وهو غريب بالنسبة إلى غيره ممن لم يطق طعم هذا الشأن ، بل هو في واد وأهله في واد .
[ ص: 194 ] وقوله : وموجوده لا يحمله علم إلى آخره .
يريد بموجوده : ما يجده في شهوده وجدانا ذاتيا حقيقيا في هذه المراتب المذكورة ؛ لأن الشهود يشملها كلها حالة المشاهدة .
فأما ما يحمله العلم : فهو أحكام العلم التي متى انسلخ منها انسلخ من الإيمان .
وموجوده في هذه المشاهدة في هذا الحال ، هو إصابته وجه الصواب الذي أراده الله ورسوله بشرعه وأمره ، وهذه الإصابة غريبة جدا عند أهل العلم ، بل هي متروكة عند كثير منهم ، فليس الحلال إلا ما أحله من قلدوه ، والحرام ما حرمه ، والدين ما أفتى به ، يقدم على النصوص ، وتترك له أقوال الرسول والصحابة وسائر أهل العلم .
قوله : " أو يظهره وجد " الوجد : يظهر أمورا ينكرها من لم يكن له ذلك الوجد ، ويعرفها من كان له ، وهذا الوجد إن شهد له العلم بالقبول وزكاه ، فهو وجد صحيح ، وإلا فهو وجد فاسد وفيه انحراف .
والمقصود : أن ما يظهره وجد هذا العارف بالله وأسمائه وصفاته وأحكامه غريب على غيره ، بحسب همته ومعرفته وطلبه .
قوله : " أو يقوم به رسم " الرسم : هو الصورة الخلقية وصفاتها وأفعالها عندهم ، والذي يقوم به هذا الرسم هو الذي يقيمه من تعلق اسم القيوم به ، فإن القيوم هو القائم بنفسه الذي قيام كل شيء به ؛ أي : هو المقيم لغيره ، فلا قيام لغيره بدون إقامته له ، وقيامه هو بنفسه لا بغيره .
ويحتمل أن يريد به معنى آخر ، وهو ما يقوى رسمه على القيام به ، فإن وراء ذلك ما لا يقوى رسم العبد على إظهاره ولا القيام به ، وهذا أظهر المعنيين من كلامه ، وسياقه إنما يدل عليه ، ولهذا قال بعد ذلك : أو تطيقه إشارة ؛ أي : لا تقدر على إفهامه وإظهاره إشارة ، فتنهض الإشارة بكشفه .
ثم قال : أو يشمله رسم ، يعني : أو تناله عبارة .
فذكر الشيخ خمس مراتب ؛ الأولى : مرتبة حمل العلم له . الثانية : مرتبة إظهار الوجد له . الثالثة : مرتبة قيام الرسم به . الرابعة : مرتبة إطاقة الإشارة له . الخامسة : مرتبة شمول العبارة له .
ومقصوده : أن موجود العارف أخفى وأدق من موجود غيره ، فهو غريب بالنسبة [ ص: 195 ] إلى موجود سواه ، وأخبر : أن موجوده في هذه المراتب غريب ، فكيف بموجوده الذي لا يحمله علم ، ولا يظهره وجد ، ولا يقوم به رسم ، ولا تطيقه إشارة ، ولا تشمله عبارة ؟ فهذا أشد غربة .
قوله : " فغربة العارف : غربة الغربة " و " الغربة " أن يكون الإنسان بين أبناء جنسه غريبا ، مع أن له نسبا فيهم .
وأما غربة المعرفة : فلا يبقى معها نسبة بينه وبين أبناء جنسه إلا بوجه بعيد ؛ لأنه في شأن والناس في شأن آخر ، فغربته غربة الغربة .
وأيضا فالصالحون غرباء في الناس ، والزاهدون غرباء في الصالحين ، والعارفون غرباء في الزاهدين .
قوله : لأنه . غريب الدنيا وغريب الآخرة
يعني : أن أبناء الدنيا لا يعرفونه ؛ لأنه ليس منهم ، وأهل الآخرة العباد الزهاد لا يعرفونه ؛ لأن شأنه وراء شأنهم ، همتهم متعلقة بالعبادة ، وهمته متعلقة بالمعبود مع قيامه بالعبادة ، فهو يرى الناس والناس لا يرونه ، كما قيل :
تسترت من دهري بظل جناحه فعيني ترى دهري وليس يراني فلو تسأل الأيام ما اسمي لما درت
وأين مكاني ما عرفن مكاني