قال : وهو . على ثلاث درجات طعم العدة . فلا يعقله ظن ، ولا يقطعه أمل . ولا تعوقه أمنية . الدرجة الأولى : ذوق التصديق
يريد : أن العبد المصدق إذا ذاق طعم الوعد من الله على إيمانه وتصديقه وطاعته : ثبت على حكم الوعد واستقام .
" فلم يعقله ظن " أي لم يحبسه ظن ، تقول : عقلت فلانا عن كذا ، أي منعته عنه وصددته ، ومنه عقال البعير ، لأنه يحبسه عن الشرود . ومنه : العقل . لأنه يحبس صاحبه عن فعل ما لا يحسن ولا يجمل . ومنه : عقلت الكلام ، وعقلت معناه : إذا حبسته في صدرك وحصلته في قلبك ، بعد أن لم يكن حاصلا عندك . ومنه : العقل للدية . لأنها تمنع آخذها من العدوان على الجاني وعصبته .
والمقصود : أن ذوق طعم الإيمان بوعد الله يمنع الذائق أن يحبسه ظن عن الجد في الطلب ، والسير إلى ربه . والظن هو الوقوف عن الجزم بصحة الوعد والوعيد ، بحيث لا يترجح عنده جانب التصديق .
وكأن الشيخ يقول : الذائق بالتصديق طعم الوعد ، لا يعارضه ظن يعقله عن صدق الطلب ، ويحبس عزيمته عن الجد فيه . وفي حديث سيد الاستغفار قوله أي مقيم على التصديق بوعدك ، وعلى القيام بعهدك ، بحسب استطاعتي . وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت
والحامل على هذه الإقامة والثبات : ذوق طعم الإيمان ، ومباشرته للقلب . ولو [ ص: 91 ] كان الإيمان مجازا - لا حقيقة - لم يثبت القلب على حكم الوعد ، والوفاء بالعهد . ولا يفيد في هذا المقام إلا ذوق طعم الإيمان . وثوب العارية لا يجمل لابسه . ولا سيما إذا عرف الناس أنه ليس له ، وأنه عارية عليه ، كما قيل :
ثوب الرياء يشف عما تحته فإذا اشتملت به فإنك عاري
وكان بعض الصحابة يكثر التلبية في إحرامه ، ثم يقول لبيك ، لو كان رياء لاضمحل وقد نفى الله تعالى الإيمان عمن ادعاه . وليس له فيه ذوق . فقال تعالى قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم .فهؤلاء مسلمون ، وليسوا بمؤمنين . لأنهم ليسوا ممن باشر الإيمان قلبه ، فذاق حلاوته وطعمه . وهذا حال أكثر المنتسبين إلى الإسلام . وليس هؤلاء كفارا . فإنه سبحانه أثبت لهم الإسلام بقوله ولكن قولوا أسلمنا ولم يرد : قولوا بألسنتكم ، من غير مواطأة القلب . فإنه فرق بين قولهم آمنا وقولهم أسلمنا ، ولكن لما لم يذوقوا طعم الإيمان ، قال : لم تؤمنوا . ووعدهم سبحانه وتعالى - مع ذلك - على طاعتهم أن لا ينقصهم من أجور أعمالهم شيئا .
ثم ذكر أهل الإيمان الذين ذاقوا طعمه ، وهم الذين آمنوا به وبرسوله . ثم لم يرتابوا في إيمانهم . وإنما انتفى عنهم الريب : لأن الإيمان قد باشر قلوبهم . وخالطتها بشاشته . فلم يبق للريب فيه موضع .
وصدق ذلك الذوق : بذلهم أحب شيء إليهم في رضا ربهم تعالى . وهو أموالهم وأنفسهم . ومن الممتنع : حصول هذا البذل من غير ذوق طعم الإيمان ، ووجود حلاوته . فإن ذلك إنما يحصل بصدق الذوق والوجد . كما قال الحسن ليس الإيمان بالتمني ، ولا بالتحلي ، ولكن ما وقر في القلب ، وصدقه العمل .
فالذوق والوجد : أمر باطن ، والعمل دليل عليه ومصدق له . كما أن الريب [ ص: 92 ] والشك والنفاق : أمر باطن . والعمل دليل عليه ومصدق له . فالأعمال ثمرات العلوم والعقائد . فاليقين : يثمر الجهاد ، ومقامات الإحسان . فعلى حسب قوته تكون ثمرته ونتيجته . والريب والشك : يثمر الأعمال المناسبة له . وبالله التوفيق .
قوله " ولا يقطعه أمل " أي من : أن لا يقطع صاحبه عن طلبه أمر دنيا ، وطمع في غرض من أغراضها . فإن الأمل والطمع يقطعان طريق القلب في سيره إلى مطلوبه . علامات الذوق
ولم يقل الشيخ : إنه لا يكون له أمل ، بل قال : لا يقطعه أمل . فإن الأمل إذا قام به ولم يقطعه : لم يضره ، وإن عوق سيره بعض التعويق . وإنما البلاء في الأمل القاطع للقلب عن سيره إلى الله .
وعند الطائفة : أن كل ما سوى الله ، فإرادته : أمل قاطع ، كائنا ما كان . فمن كان ذلك أمله ، ومنتهى طلبه : فليس من أهل ذوق الإيمان . فإنه من ذاق حلاوة معرفة الله والقرب منه ، والأنس به : لم يكن له أمل في غيره . وإن تعلق أمله بسواه ، فهو لإعانته على مرضاته ومحابه . فهو يؤمله لأجله ، ولا يؤمله معه .
فإن قلت : فما الذي يقطع به العبد هذا الأمل ؟
قلت : قوة رغبته في المطلب الأعلى ، الذي ليس شيء أعلى منه . ومعرفته بخسة ما يؤمل دونه ، وسرعة ذهابه . فيوشك انقطاعه . وأنه في الحقيقة كخيال طيف ، أو سحابة صيف . فهو ظل زائل ، ونجم قد تدلى للغروب . فهو عن قريب آفل . قال النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال ما لي وللدنيا ؟ إنما أنا كراكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها فشبه الدنيا في جنب الآخرة بما يعلق على الإصبع من البلل حين تغمس في البحر . ما الدنيا في الآخرة إلا كما يدخل أحدكم إصبعه في اليم ، فلينظر : بم ترجع ؟
قال - رضي الله عنه - : لو أن الدنيا من أولها إلى آخرها أوتيها [ ص: 93 ] رجل ، ثم جاءه الموت : لكان بمنزلة من رأى في منامه ما يسره . ثم استيقظ فإذا ليس في يده شيء . عمر بن الخطاب
وقال - أو غيره - : نعيم الدنيا بحذافيره في جنب نعيم الآخرة : أقل من ذرة في جنب جبال الدنيا . مطرف بن عبد الله
ومن حدق عين بصيرته في الدنيا والآخرة : علم أن الأمر كذلك .
فكيف يليق بصحيح العقل والمعرفة : أن يقطعه أمل من هذا الجزء الحقير عن نعيم لا يزول ، ولا يضمحل ؟ فضلا عن أن يقطعه عن طلب من نسبة هذا النعيم الدائم إلى نعيم معرفته ومحبته ، والأنس به ، والفرح بقربه ، كنسبة نعيم الدنيا إلى نعيم الجنة ؟ قال الله تعالى وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر فيسير من رضوانه - ولا يقال له يسير - أكبر من الجنات وما فيها .
وفي حديث الرؤية وفي حديث آخر فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إلى وجهه إنهم إذا رأوه - سبحانه - لم يلتفتوا إلى شيء مما هم فيه من النعيم ، حتى يتوارى عنهم .
فمن قطعه عن هذا أمل ، فقد فاز بالحرمان ، ورضي لنفسه بغاية الخسران ، والله المستعان . وعليه التكلان . وما شاء الله كان .
قوله " ولا تعوقه أمنية " الأمنية : هي ما يتمناه العبد من الحظوظ . وجمعها أماني . والفرق بينها وبين الأمل أن الأمل يتعلق بما يرجى وجوده . والأمنية : قد تتعلق بما لا يرجى حصوله . كما يتمنى العاجز المراتب العالية .
والأماني الباطلة : هي رءوس أموال المفاليس . بها يقطعون أوقاتهم ويلتذون [ ص: 94 ] بها ، كالتذاذ من زال عقله بالمسكر ، أو بالخيالات الباطلة .
وفي الحديث المرفوع . الكيس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت . والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني
ولا يرضى بالأماني عن الحقائق إلا ذوو النفوس الدنيئة الساقطة . كما قيل :
واترك منى النفس لا تحسبه يشبعها إن المنى رأس أموال المفاليس
وأمنية الرجل تدل على علو همته وخستها . وفي أثر إلهي " إني لا أنظر إلى كلام الحكيم ، وإنما أنظر إلى همته " والعامة تقول : قيمة كل امرئ ما يحسنه . والعارفون يقولون : قيمة كل امرئ ما يطلب .