فصل ومنها و " الذوق " مباشرة الحاسة الظاهرة والباطنة للملائم والمنافر . ولا يختص ذلك بحاسة الفم في لغة القرآن ، بل ولا في لغة العرب . قال الله تعالى منزلة الذوق وذوقوا عذاب الحريق وقال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وقال تعالى هذا فليذوقوه حميم وغساق وقال فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون .
فتأمل كيف جمع بين الذوق واللباس ، ليدل على مباشرة المذوق وإحاطته وشموله . فأفاد الإخبار عن إذاقته : أنه واقع مباشر غير منتظر . فإن الخوف قد يتوقع ولا [ ص: 87 ] يباشر ، وأفاد الإخبار عن لباسه : أنه محيط شامل كاللباس للبدن .
وفي الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - رسولا فأخبر : أن للإيمان طعما ، وأن القلب يذوقه كما يذوق الفم طعم الطعام والشراب . ذاق طعم الإيمان : من رضي بالله ربا ، وبالإسلام دينا .
وقد عبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إدراك حقيقة الإيمان ، والإحسان ، وحصوله للقلب ومباشرته له : بالذوق تارة ، وبالطعام والشراب تارة ، وبوجود الحلاوة تارة ، كما قال وقال ذاق طعم الإيمان . ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما . ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله . ومن كان يكره أن يرجع في الكفر - بعد إذ أنقذه الله منه - كما يكره أن يلقى في النار
ولما نهاهم عن الوصال قالوا : وفي لفظ إنك تواصل ، قال : إني لست كهيئتكم ، إني أطعم وأسقى وفي لفظ إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني . إن لي مطعما يطعمني ، وساقيا يسقيني
وقد غلظ حجاب من ظن أن هذا طعام وشراب حسي للفم . ولو كان كما ظنه هذا الظان : لما كان صائما ، فضلا عن أن يكون مواصلا . ولما صح جوابه بقوله فأجاب بالفرق بينه وبينهم . ولو كان يأكل ويشرب بفيه الكريم حسا ، لكان الجواب أن يقول : وأنا لست أواصل أيضا . فلما أقرهم على قولهم إنك تواصل علم أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يمسك عن الطعام والشراب ، ويكتفي بذلك الطعام والشراب العالي الروحاني ، الذي يغني عن الطعام والشراب المشترك الحسي . إني لست كهيئتكم
وهذا الذوق هو الذي استدل به هرقل على صحة النبوة ، حيث قال لأبي سفيان : فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه ؟ فقال : لا . قال : وكذلك الإيمان ، إذا خالطت [ ص: 88 ] حلاوته بشاشة القلوب .
فاستدل بما يحصل لأتباعه من ذوق الإيمان - الذي خالطت بشاشته القلوب : لم يسخطه ذلك القلب أبدا - على أنه دعوة نبوة ورسالة ، لا دعوى ملك ورياسة .
والمقصود : أن ذوق حلاوة الإيمان والإحسان ، أمر يجده القلب . تكون نسبته إليه كنسبة ذوق حلاوة الطعام إلى الفم ، وذوق حلاوة الجماع إلى إلفة النفس . كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فللإيمان طعم وحلاوة يتعلق بهما ذوق ووجد . ولا تزول الشبه والشكوك عن القلب إلا إذا وصل العبد إلى هذه الحال . فباشر الإيمان قلبه حقيقة المباشرة . فيذوق طعمه ويجد حلاوته . والله الموفق . حتى تذوقي عسيلته . ويذوق عسيلتك