قال : . وهي غيرة على وقت فات . وهي غيرة قاتلة . فإن الوقت وحي التقضي . أبي الجانب ، بطي الرجوع . الدرجة الثانية : غيرة المريد
و " المريدون " هم أرباب الأحوال ، و " العباد " أرباب الأوراد والعبادات . وكل مريد عابد . وكل عابد مريد . لكن القوم خصوا أهل المحبة وأذواق حقائق الإيمان [ ص: 50 ] باسم " المريد " وخصوا أصحاب العمل المجرد باسم " العابد " وكل مريد لا يكون عابدا فزنديق ، وكل عابد لا يكون مريدا فمراء .
و " الوقت " عند العابد : هو وقت العبادة والأوراد . وعند المريد : هو وقت الإقبال على الله ، والجمعية عليه ، والعكوف عليه بالقلب كله .
و " الوقت " أعز شيء عليه ، يغار عليه أن ينقضي بدون ذلك . فإذا فاته الوقت لا يمكنه استدراكه ألبتة . لأن الوقت الثاني قد استحق واجبه الخاص ، فإذا فاته وقت فلا سبيل له إلى تداركه .
كما في المسند مرفوعا . من أفطر يوما من رمضان ، متعمدا من غير عذر : لم يقضه عنه صيام الدهر ، وإن صامه
وقوله " وهي غيرة قاتلة " يعني : مضرة ضررا شديدا بينا يشبه القتل ، لأن حسرة الفوت قاتلة . ولا سيما إذا علم المتحسر : أنه لا سبيل له إلى الاستدراك .
وأيضا . فالغيرة على التفويت تفويت آخر ، كما يقال : الاشتغال بالندم على الوقت الفائت تضييع للوقت الحاضر . ولذلك يقال : الوقت سيف . إن لم تقطعه ، وإلا قطعك .
ثم بين الشيخ السبب في كون هذه الغيرة قاتلة . فقال :
" فإن الوقت وحي التقضي " أي سريع الانقضاء ، كما تقول العرب الوحا الوحا ، العجل العجل ، والوحي الإعلام في خفاء وسرعة . ويقال : جاء فلان وحيا أي مجيئا سريعا .
فالوقت منقض بذاته ، منصرم بنفسه . فمن غفل عن نفسه تصرمت أوقاته ، وعظم فواته . واشتدت حسراته . فكيف حاله إذا علم عند تحقق الفوت مقدار ما أضاع . وطلب الرجعى فحيل بينه وبين الاسترجاع وطلب تناول الفائت .
[ ص: 51 ] وكيف يرد الأمس في اليوم الجديد ؟ وأنى لهم التناوش من مكان بعيد ومنع مما يحبه ويرتضيه ، وعلم أن ما اقتناه ليس مما ينبغي للعاقل أن يقتنيه ، وحيل بينه وبين ما يشتهيه .
فيا حسرات ما إلى رد مثله سبيل ولو ردت لهان التحسر هي الشهوات اللاء كانت تحولت
إلى حسرات حين عز التصبر فلو أنها ردت بصبر وقوة
تحولن لذات وذو اللب يبصر
والمقصود : أن الواردات سريعة الزوال . تمر أسرع من السحاب ، وينقضي الوقت بما فيه . فلا يعود عليك منه إلا أثره وحكمه . فاختر لنفسك ما يعود عليك من وقتك . فإنه عائد عليك لا محالة . لهذا يقال للسعداء كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية ويقال للأشقياء ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون .