في ذكر ، بحسب آثارها وشواهدها . والكلام على ما يحتاج إليه منها . رسوم وحدود قيلت في المحبة
الأول ، قيل : المحبة الميل الدائم ، بالقلب الهائم .
وهذا الحد لا تمييز فيه بين المحبة الخاصة والمشتركة ، والصحيحة والمعلولة .
الثاني : إيثار المحبوب ، على جميع المصحوب .
وهذا حكم من أحكام المحبة وأثر من آثارها .
الثالث : موافقة الحبيب ، في المشهد والمغيب .
وهذا أيضا موجبها ومقتضاها . وهو أكمل من الحدين قبله . فإنه يتناول المحبة الصادقة الصحيحة خاصة ، بخلاف مجرد الميل والإيثار بالإرادة . فإنه إن لم تصحبه موافقة فمحبته معلولة .
الرابع : محو الحب لصفاته . وإثبات المحبوب لذاته .
وهذا أيضا من أحكام الفناء في المحبة : أن تنمحي صفات المحب ، وتفنى في صفات محبوبه وذاته . وهذا يستدعي بيانا أتم من هذا ، لا يدركه إلا من أفناه وارد المحبة عنه ، وأخذه منه .
الخامس : مواطأة القلب لمرادات المحبوب .
وهذا أيضا من موجباتها وأحكامها . والمواطأة الموافقة لمرادات المحبوب وأوامره ومراضيه .
السادس : خوف ترك الحرمة ، مع إقامة الخدمة .
وهذا أيضا من أعلامها وشواهدها وآثارها : أن يقوم بالخدمة كما ينبغي ، مع خوفه من ترك الحرمة والتعظيم .
السابع : استقلال الكثير من نفسك ، واستكثار القليل من حبيبك .
وهذا قول أبي يزيد ، وهو أيضا من أحكامها وموجباتها وشواهدها . والمحب [ ص: 14 ] الصادق لو بذل لمحبوبه جميع ما يقدر عليه لاستقله واستحيى منه ، ولو ناله من محبوبه أيسر شيء لاستكثره واستعظمه .
الثامن : استكثار القليل من جنايتك ، واستقلال الكثير من طاعتك . وهو قريب من الذي قبله ، لكنه مخصوص بما من المحب .
التاسع : معانقة الطاعة ، ومباينة المخالفة .
وهو لسهل بن عبد الله . وهو أيضا حكم المحبة وموجبها .
العاشر : دخول صفات المحبوب على البدل من صفات المحب . وهو للجنيد .
وفيه غموض . ومراده : أن استيلاء ذكر المحبوب وصفاته وأسمائه على قلب المحب حتى لا يكون الغالب عليه إلا ذلك ، ولا يكون شعوره وإحساسه في الغالب إلا بها . فيصير شعوره وإحساسه بدلا من شعوره وإحساسه بصفات نفسه ، وقد يحتمل معنى أشرف من هذا : تبدل صفات المحب الذميمة - التي لا توافق صفات المحبوب - بالصفات الجميلة المحبوبة التي توافق صفاته . والله أعلم .
الحادي عشر : أن تهب كلك لمن أحببت . فلا يبقى لك منك شيء .
وهو لأبي عبد الله القرشي . وهو أيضا من موجبات المحبة وأحكامها . والمراد : أن تهب إرادتك وعزمك وأفعالك ونفسك ومالك ووقتك لمن تحبه وتجعلها حبسا في مرضاته ومحابه . فلا تأخذ لنفسك منها إلا ما أعطاك . فتأخذه منه له .
الثاني عشر : أن تمحو من القلب ما سوى المحبوب . وهو للشبلي ، وكمال المحبة يقتضي ذلك . فإنه ما دامت في القلب بقية لغيره ومسكن لغيره فالمحبة مدخولة .
الثالث عشر : إقامة العتاب على الدوام . وهو لابن عطاء . وفيه غموض .
ومراده : أن لا تزال عاتبا على نفسك في مرضاة المحبوب . وأن لا ترضى له فيها عملا ولا حالا .
الرابع عشر : أن تغار على المحبوب : أن يحبه مثلك . وهو للشبلي أيضا .
وفيه كلام سنذكره إن شاء الله في منزلة الغيرة ، ومراده : احتقارك لنفسك واستصغارها : أن يكون مثلك من محبيه .
[ ص: 15 ] الخامس عشر : إرادة غرست أغصانها في القلب . فأثمرت الموافقة والطاعة .
السادس عشر : أن ينسى المحب حظه في محبوبه ، وينسى حوائجه إليه . وهو لأبي يعقوب السوسي . ومراده : أن استيلاء سلطانها على قلبه غيبه عن حظوظه وعن حوائجه . واندرجت كلها في حكم المحبة .
السابع عشر : مجانبة السلو على كل حال . وهو للنصراباذي . وهو أيضا من لوازمها وثمراتها ، كما قيل :
مرت بأرجاء الخيال طيوفه فبكت على رسم السلو الدارس
.الثامن عشر : توحيد المحبوب بخالص الإرادة وصدق الطلب .
التاسع عشر : سقوط كل محبة من القلب إلا محبة الحبيب . وهو لمحمد بن الفضل . ومراده : توحيد المحبوب بالمحبة .
العشرون : غض طرف القلب عما سوى المحبوب غيرة . وعن المحبوب هيبة . وهذا يحتاج إلى تبيين .
أما الأول : فظاهر . وأما الثاني : فإن غض طرف القلب عن المحبوب - مع كمال محبته - كالمستحيل . ولكن عند استيلاء الهيبة يقع مثل هذا . وذلك من علامات المحبة المقارنة للهيبة والتعظيم . وقد قيل : إن هذا تفسير قول النبي - صلى الله عليه وسلم - أي يعمي عما سواه غيرة ، وعنه هيبة . حبك الشيء يعمي ويصم
[ ص: 16 ] وليس هذا مراد الحديث ، ولكن المراد به : أن حبك للشيء يعمي ويصم عن تأمل قبائحه ومساويه . فلا تراها ولا تسمعها ، وإن كانت فيه . وليس المراد به : ذكر المحبة المطلوبة المتعلقة بالرب . ولا يقال في حب الرب تبارك وتعالى : حبك الشيء . ولا يوصف صاحبها بالعمى والصم .
ونحن لا ننكر المرتبتين المذكورتين . فإن المحب قد يعمى ويصم عنه بالهيبة والإجلال ، ولكن لا توصف محبة العبد لربه تعالى بذلك . وليس أهلها من أهل العمى والصمم . بل هم أهل الأسماع والأبصار على الحقيقة ومن سواهم هم البكم العمي الصم الذين لا يعقلون .
الحادي والعشرون : ميلك للشيء بكليتك . ثم إيثارك له على نفسك وروحك ومالك . ثم موافقتك له سرا وجهرا . ثم علمك بتقصيرك في حبه .
قال الجنيد : سمعت يقول ذلك . الحارث المحاسبي
الثاني والعشرون : المحبة نار في القلب ، تحرق ما سوى مراد المحبوب .
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول : لمت بعض الإباحية ، فقال لي ذلك . ثم قال : والكون كله مراده ، فأي شيء أبغض منه ؟
قال الشيخ : فقلت له : إذا كان المحبوب قد أبغض أفعالا وأقوالا وأقواما وعاداهم فطردهم ولعنهم فأحببتهم : تكون مواليا للمحبوب أو معاديا له ؟ قال : فكأنما ألقم حجرا . وافتضح بين أصحابه . وكان مقدما فيهم مشارا إليه .
وهذا الحد صحيح : وقائله إنما أراد : أنها تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب الديني الأمري ، الذي يحبه ويرضاه ، لا المراد الذي قدره وقضاه . لكن لقلة حظ المتأخرين منهم وغيرهم من العلم : وقعوا فيما وقعوا فيه من الإباحة والحلول والاتحاد ، والمعصوم من عصمه الله .
الثالث والعشرون : المحبة بذل المجهود ، وترك الاعتراض على المحبوب . [ ص: 17 ] وهذا أيضا من حقوقها وثمراتها . وموجباتها .
الرابع والعشرون : سكر لا يصحو صاحبه إلا بمشاهدة محبوبه . ثم السكر الذي يحصل عند المشاهدة لا يوصف ، وأنشد :
فأسكر القوم دور الكأس بينهم لكن سكري نشا من رؤية الساقي
وينبغي صون المحبة والحبيب عن هذه الألفاظ ، التي غاية صاحبها : أن يعذر بصدقه وغلبة الوارد عليه ، وقهره له . فمحبة الله أعلى وأجل من أن تضرب لها هذه الأمثال ، وتجعل عرضة للأفواه المتلوثة ، والألفاظ المبتدعة ، ولكن الصادق في خفارة صدقه .
الخامس والعشرون : أن لا يؤثر على المحبوب غيره ، وأن لا يتولى أمورك غيره .
السادس والعشرون : الدخول تحت رق المحبوب وعبوديته ، والحرية من استرقاق ما سواه .
السابع والعشرون : المحبة سفر القلب في طلب المحبوب ، ولهج اللسان بذكره على الدوام .
قلت : أما سفر القلب في طلب المحبوب : فهو الشوق إلى لقائه ، وأما لهج اللسان بذكره : فلا ريب أن من أحب شيئا أكثر من ذكره .
الثامن والعشرون : أن المحبة هي ما لا ينقص بالجفاء . ولا تزيد بالبر . وهو ، بل الإرادة والطلب والشوق إلى المحبوب لذاته ، فلا ينقص ذلك جفاؤه . ولا يزيده بره . ليحيى بن معاذ
وفي ذلك ما فيه . فإن المحبة الذاتية تزيد بالبر . ولا تنقصها زيادتها بالبر . وليس ذلك بعلة ، ولكن مراد يحيى : أن القلب قد امتلأ بالمحبة الذاتية . فإذا جاء البر من محبوبه . لم يجد في القلب مكانا خاليا من حبه يشغله محبة البر . بل تلك المحبة قد استحقت عليه بالذات بلا سبب . ومع هذا فلا يزيل الوهم . فإن المحبة لا نهاية لها . وكلما قويت المعرفة والبر قويت المحبة . ولا نهاية لجمال المحبوب ولا بره . فلا نهاية لمحبته ، بل لو اجتمعت محبة الخلق كلهم وكانت على قلب رجل واحد منهم : كان ذلك دون ما يستحقه الرب جل جلاله . ولهذا لا تسمى محبة العبد لربه عشقا - كما سيأتي - لأنه إفراط المحبة ، والعبد لا يصل في محبة الله إلى حد الإفراط ، ألبتة . والله أعلم .
[ ص: 18 ] التاسع والعشرون : المحبة أن يكون كلك بالمحبوب مشغولا ، وذلك له مبذولا .
الثلاثون : وهو من أجمع ما قيل فيها ، قال : جرت مسألة في المحبة أبو بكر الكتاني بمكة - أعزها الله تعالى - أيام الموسم ، فتكلم الشيوخ فيها . وكان الجنيد أصغرهم سنا . فقالوا : هات ما عندك يا عراقي . فأطرق رأسه ، ودمعت عيناه . ثم قال : عبد ذاهب عن نفسه ، متصل بذكر ربه ، قائم بأداء حقوقه ، ناظر إليه بقلبه ، أحرقت قلبه أنوار هيبته . وصفا شربه من كأس وده . وانكشف له الجبار من أستار غيبه . فإن تكلم فبالله . وإن نطق فعن الله . وإن تحرك فبأمر الله . وإن سكن فمع الله . فهو بالله ولله ومع الله .
فبكى الشيوخ وقالوا : ما على هذا مزيد . جزاك الله يا تاج العارفين .