قال : الدرجة الثانية : خوف المكر في جريان الأنفاس المستغرقة في اليقظة ، المشوبة بالحلاوة .
[ ص: 512 ] يريد أن من حصلت له اليقظة بلا غفلة ، واستغرقت أنفاسه فيها استحلى ذلك ، فإنه لا أحلى من الحضور في اليقظة ، فإنه ينبغي أن يخاف المكر ، وأن يسلب هذا الحضور ، واليقظة والحلاوة ، فكم من مغبوط بحاله انعكس عليه الحال ، ورجع من حسن المعاملة إلى قبيح الأعمال ، فأصبح يقلب كفيه ويضرب باليمين على الشمال ؟ بينما بدر أحواله مستنيرا في ليالي التمام ، إذ أصابه الكسوف فدخل في الظلام ، فبدل بالأنس وحشة ، وبالحضور غيبة ، وبالإقبال إعراضا ، وبالتقريب إبعادا ، وبالجمع تفرقة ، كما قيل :
أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت ولم تخف سوء ما يأتي به القدر وسالمتك الليالي فاغتررت بها
وعند صفو الليالي يحدث الكدر
يعني أن وحشة الخوف إنما تكون مع الانقطاع والإساءة ، وأهل الخصوص أهل وصول إلى الله وقرب منه ، فليس خوفهم خوف وحشة ، كخوف المسيئين المنقطعين ، لأن الله عز وجل معهم بصفة الإقبال عليهم ، والمحبة لهم ، وهذا بخلاف هيبة الجلال ، فإنها متعلقة بذاته وصفاته ، وكلما كان عبده به أعرف وإليه أقرب ، كانت هيبته وإجلاله في قلبه أعظم ، وهي أعلى من درجة خوف العامة .
قال : وهي هيبة تعارض المكاشف أوقات المناجاة ، وتصون المسامر أحيان المسامرة ، وتفصم المعاين بصدمة العزة .
يعني أن أكثر ما تكون الهيبة أوقات المناجاة ، وهو وقت تملق العبد ربه ، وتضرعه بين يديه ، واستعطافه ، والثناء عليه بآلائه وأسمائه وأوصافه ، أو مناجاته بكلامه ، هذا هو مراد القوم بالمناجاة .
وهذه المناجاة توجب كشف الغطاء بين القلب وبين الرب ، ورفع الحجاب المانع من مكافحة القلب لأنوار أسمائه وصفاته ، وتجليها عليه ، فتعارضه الهيبة في خلال هذه الأوقات ، فيفيض من عنان مناجاته بحسب قوة واردها .
وأما صون المسامر أحيان المسامرة : فالمسامرة عندهم : أخص من المناجاة ، وهي [ ص: 513 ] مخاطبة القلب للرب خطاب المحب لمحبوبه ، فإن لم يقارنها هيبة جلاله ، أخذت به في الانبساط والإدلال ، فتجيء الهيبة صائنة للمسامر في مسامرته عن انخلاعه من أدب العبودية .
وأما فصمها المعاين بصدمة العزة فإن الفصم هو القطع أي تكاد تقتله وتمحقه بصدمة عزة الربوبية بمعانيها الثلاثة ، وهي عزة الامتناع ، وعزة القوة والشدة ، وعزة السلطان والقهر ، فإذا صدمت المعاين كادت تفصمه وتمحق أثره ، إذ لا يقوم لعزة الربوبية شيء ، والله أعلم .