فصل
فأما النوع الأول فهو وذم المعرضين عنه ولعنهم ، وجعلهم أضل من الأنعام سبيلا ، وهم القائلون في النار السماع الذي مدحه الله في كتابه ، وأمر به وأثنى على [ ص: 480 ] أصحابه ، لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير وهو سماع آياته المتلوة التي أنزلها على رسوله ، فهذا السماع أساس الإيمان الذي يقوم عليه بناؤه ، وهو على ثلاثة أنواع ، سماع إدراك بحاسة الأذن ، وسماع فهم وعقل ، وسماع فهم وإجابة وقبول ، والثلاثة في القرآن .
فأما سماع الإدراك ففي قوله تعالى حكاية عن مؤمني الجن قولهم إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به وقوله : ياقومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى الآية ، فهذا سماع إدراك اتصل به الإيمان والإجابة
وأما سماع الفهم فهو المنفي عن أهل الإعراض والغفلة ، بقوله تعالى فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء وقوله : إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور .
فالتخصيص هاهنا لإسماع الفهم والعقل ، وإلا فالسمع العام الذي قامت به الحجة لا تخصيص فيه ، ومنه قوله تعالى ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون أي لو علم الله في هؤلاء الكفار قبولا وانقيادا لأفهمهم ، وإلا فهم قد سمعوا سمع الإدراك ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون أي ولو أفهمهم لما انقادوا ولا انتفعوا بما فهموا; لأن في قلوبهم من داعي التولي والإعراض ما يمنعهم عن الانتفاع بما سمعوه .
وأما سماع القبول والإجابة ففي قوله تعالى حكاية عن عباده المؤمنين أنهم قالوا سمعنا وأطعنا فإن هذا سمع قبول وإجابة مثمر للطاعة .
[ ص: 481 ] والتحقيق : أنه متضمن للأنواع الثلاثة ، وأنهم أخبروا بأنهم أدركوا المسموع وفهموه ، واستجابوا له .
ومن سمع القبول : قوله تعالى وفيكم سماعون لهم أي قابلون منهم مستجيبون لهم ، هذا أصح القولين في الآية .
وأما قول من قال : عيون لهم وجواسيس فضعيف ، فإنه سبحانه أخبر عن حكمته في تثبيطهم عن الخروج بأن خروجهم يوجب الخبال والفساد ، والسعي بين العسكر بالفتنة ، وفي العسكر من يقبل منهم ، ويستجيب لهم ، فكان في إقعادهم عنهم لطفا بهم ورحمة ، حتى لا يقعوا في عنت القبول منهم .
أما اشتمال العسكر على جواسيس وعيون لهم فلا تعلق له بحكمة التثبيط والإقعاد ، ومعلوم أن جواسيسهم وعيونهم منهم ، وهو سبحانه قد أخبر أنه أقعدهم لئلا يسعوا بالفساد في العسكر ، ولئلا يبغوهم الفتنة ، وهذه الفتنة إنما تندفع بإقعادهم ، وإقعاد جواسيسهم وعيونهم .
وأيضا فإن الجواسيس إنما تسمى عيونا هذا المعروف في الاستعمال لا تسمى سماعين .
وأيضا فإن هذا نظير قوله تعالى في إخوانهم اليهود سماعون للكذب أكالون للسحت أي قابلون له .
والمقصود أن سماع خاصة الخاصة المقربين هو سماع القرآن بالاعتبارات الثلاثة : إدراكا وفهما ، وتدبرا ، وإجابة . وكل سماع في القرآن مدح الله أصحابه وأثنى عليهم ، وأمر به أولياءه فهو هذا السماع .
وهو سماع الآيات ، لا سماع الأبيات ، وسماع القرآن ، لا سماع مزامير الشيطان ، وسماع كلام رب الأرض والسماء لا سماع قصائد الشعراء ، وسماع المراشد ، لا سماع القصائد ، وسماع الأنبياء والمرسلين ، لا سماع المغنين والمطربين .
فهذا السماع حاد يحدو القلوب إلى جوار علام الغيوب ، وسائق يسوق الأرواح [ ص: 482 ] إلى ديار الأفرح ، ومحرك يثير ساكن العزمات إلى أعلى المقامات وأرفع الدرجات ، ومناد ينادي للإيمان ، ودليل يسير بالركب في طريق الجنان ، وداع يدعو القلوب بالمساء والصباح ، من قبل فالق الإصباح حي على الفلاح ، حي على الفلاح .
فلم يعدم من اختار هذا السماع إرشادا لحجة ، وتبصرة لعبرة ، وتذكرة لمعرفة ، وفكرة في آية ، ودلالة على رشد ، وردا على ضلالة ، وإرشادا من غي ، وبصيرة من عمى ، وأمرا بمصلحة ، ونهيا عن مضرة ومفسدة ، وهداية إلى نور ، وإخراجا من ظلمة ، وزجرا عن هوى ، وحثا على تقى ، وجلاء لبصيرة ، وحياة لقلب ، وغذاء ودواء وشفاء ، وعصمة ونجاة ، وكشف شبهة ، وإيضاح برهان ، وتحقيق حق ، وإبطال باطل .
ونحن نرضى بحكم أهل الذوق في سماع الأبيات والقصائد ، ونناشدهم بالذي أنزل القرآن هدى وشفاء ونورا وحياة هل وجدوا ذلك أو شيئا منه في الدف والمزمار ؟ ونغمة الشادن ومطربات الألحان ؟ . والغناء المشتمل على تهييج الحب المطلق الذي يشترك فيه محب الرحمن ، ومحب الأوطان ، ومحب الإخوان ، ومحب العلم والعرفان ، ومحب الأموال والأثمان ، ومحب النسوان والمردان ، ومحب الصلبان ، فهو يثير من قلب كل مشتاق ومحب لشيء ساكنه ، ويزعج قاطنه ، فيثور وجده ، ويبدو شوقه ، فيتحرك على حسب ما في قلبه من الحب والشوق والوجد بذلك المحبوب كائنا ما كان ، ولهذا تجد لهؤلاء كلهم ذوقا في السماع ، وحالا ووجدا وبكاء .
ويا لله العجب ! أي إيمان ونور وبصيرة وهدى ومعرفة تحصل باستماع أبيات بألحان وتوقيعات ، لعل أكثرها قيلت فيما هو محرم يبغضه الله ورسوله ، ويعاقب عليه من غزل وتشبيب بمن لا يحل له من ذكر أو أنثى ؟ فإن غالب التغزل والتشبيب إنما هو في الصور المحرمة ، ومن أندر النادر تغزل الشاعر وتشبيبه في امرأته ، وأمته وأم ولده ، مع أن هذا واقع لكنه كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود ، فكيف يقع لمن له أدنى بصيرة وحياة قلب أن يتقرب إلى الله ، ويزداد إيمانا وقربا منه وكرامة عليه ، بالتذاذه بما هو بغيض إليه ، مقيت عنده ، يمقت قائله والراضي به ؟ وتترقى به الحال حتى يزعم أن ذلك أنفع لقلبه من سماع القرآن والعلم النافع ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ؟ ! .
يا لله ! إن هذا القلب مخسوف به ، ممكور به منكوس ، لم يصلح لحقائق القرآن وأذواق معانيه ، ومطالعة أسراره ، فبلاه بقرآن الشيطان ، كما في معجم وغيره مرفوعا وموقوفا " الطبراني " والله سبحانه وتعالى أعلم . إن الشيطان قال : يا رب ، اجعل لي قرآنا ، قال : قرآنك الشعر ، قال : اجعل لي كتابا ، قال : كتابك الوشم ، قال : اجعل لي مؤذنا ، قال : مؤذنك المزمار ، قال : اجعل لي بيتا ، قال : بيتك الحمام ، قال : اجعل لي مصائد ، قال : مصائدك النساء ، قال : [ ص: 483 ] اجعل لي طعاما ، قال : طعامك ما لم يذكر عليه اسمي