[ ص: 444 ] إنما يشتد وهي الترغيب والترهيب إذا ضعفت إنابته وتذكره ، وإلا فمتى قويت إنابته وتذكره لم تشتد حاجته إلى التذكير والترغيب والترهيب ، ولكن تكون الحاجة منه شديدة إلى معرفة الأمر والنهي . افتقار العبد إلى العظة
والعظة يراد بها أمران : الأمر والنهي المقرونان بالرغبة والرهبة ، ونفس الرغبة والرهبة . فالمنيب المتذكر شديد الحاجة إلى الأمر والنهي ، والمعرض الغافل شديد الحاجة إلى الترغيب والترهيب ، والمعارض المتكبر شديد الحاجة إلى المجادلة
فجاءت هذه الثلاثة في حق هؤلاء الثلاثة في قوله : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن أطلق الحكمة ولم يقيدها بوصف الحسنة ، إذ كلها حسنة ، ووصف الحسن لها ذاتي .
وأما الموعظة فقيدها بوصف الإحسان ، إذ ليس كل موعظة حسنة .
وكذلك الجدل قد يكون بالتي هي أحسن ، وقد يكون بغير ذلك ، وهذا يحتمل أن يرجع إلى حال المجادل وغلظته ، ولينه وحدته ورفقه ، فيكون مأمورا بمجادلتهم بالحال التي هي أحسن .
ويحتمل أن يكون صفة لما يجادل به من الحجج والبراهين ، والكلمات التي هي أحسن شيء وأبينه ، وأدله على المقصود ، وأوصله إلى المطلوب . والتحقيق : أن الآية تتناول النوعين .
وأما ما ذكره بعض المتأخرين أن هذا إشارة إلى أنواع القياسات فالحكمة [ ص: 445 ] هي طريقة البرهان ، فالأول : بذكر المقدمات البرهانية لمن لا يرضى إلا بالبرهان ، ولا ينقاد إلا له ، وهم خواص الناس ، والثاني : بذكر المقدمات الخطابية التي تثير رغبة ورهبة لمن يقنع بالخطابة وهم الجمهور ، والثالث : بذكر المقدمات الجدلية للمعارض الذي يندفع بالجدل ، وهم المخالفون فتنزيل القرآن على قوانين أهل المنطق اليوناني واصطلاحهم ، وذلك باطل قطعا من وجوه عديدة ليس هذا موضع ذكرها ، وإنما ذكر هذا استطرادا لذكر العظة ، وأن المنيب المتذكر لا تشتد حاجته إليها كحاجة الغافل المعرض ، فإنه شديد الحاجة جدا إلى العظة ليتذكر ما قد نسيه ، فينتفع بالتذكر . والموعظة الحسنة هي طريقة الخطابة ، والمجادلة بالتي هي أحسن طريقة الجدل ،
وأما العمى عن عيب الواعظ فإنه إذا اشتغل به حرم الانتفاع بموعظته ، لأن النفوس مجبولة على عدم الانتفاع بكلام من لا يعمل بعمله ولا ينتفع به ، وهذا بمنزلة من يصف له الطبيب دواء لمرض به مثله ، والطبيب معرض عنه غير ملتفت إليه ، بل الطبيب المذكور عندهم أحسن حالا من هذا الواعظ المخالف لما يعظ به ، لأنه قد يقوم دواء آخر عنده مقام هذا الدواء ، وقد يرى أن به قوة على ترك التداوي ، وقد يقنع بعمل الطبيعة وغير ذلك بخلاف هذا الواعظ ، فإن ما يعظ به طريق معين للنجاة لا يقوم غيرها مقامها ، ولا بد منها ، ولأجل هذه النفرة قال شعيب عليه السلام لقومه وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه وقال بعض السلف : إذا أردت أن يقبل منك الأمر والنهي فإذا أمرت بشيء فكن أول الفاعلين له ، المؤتمرين به ، وإذا نهيت عن شيء ، فكن أول المنتهين عنه ، وقد قيل :
يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم ؟ تصف الدواء لذي السقام من الضنى
ومن الضنى تمسي وأنت سقيم لا تنه عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت ذميم ابدأ بنفسك فانهها عن غيها
فإذا انتهت عنه فأنت حكيم هناك يقبل ما تقول ويقتدى
بالقول منك وينفع التعليم
وأما فإن ذلك يوجب خشيته والحذر منه ، ولا تنفع الموعظة إلا لمن آمن به ، وخافه ورجاه ، قال الله تعالى تذكر الوعد والوعيد إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة وقال سيذكر من يخشى وقال إنما أنت منذر من يخشاها وأصرح من ذلك قوله تعالى فذكر بالقرآن من يخاف وعيد فالإيمان بالوعد والوعيد ، وذكره : شرط في الانتفاع بالعظات والآيات والعبر ، يستحيل حصوله بدونه .
قال : وإنما تستبصر العبرة بثلاثة أشياء : بحياة العقل ، ومعرفة الأيام ، والسلامة من الأغراض .
إنما تتميز العبرة وترى وتتحقق بحياة العقل ، والعبرة هي الاعتبار ، وحقيقتها العبور من حكم الشيء إلى حكم مثله ، فإذا رأى من قد أصابته محنة وبلاء لسبب ارتكبه ، علم أن حكم من ارتكب ذلك السبب كحكمه .
وحياة العقل هي صحة الإدراك ، وقوة الفهم وجودته ، وتحقق الانتفاع بالشيء والتضرر به ، وهو نور يخص الله به من يشاء من خلقه ، وبحسب تفاوت الناس في قوة ذلك النور وضعفه ووجوده وعدمه يقع تفاوت أذهانهم وأفهامهم وإدراكاتهم . ونسبته إلى القلب كنسبة النور الباصر إلى العين .
ومن تجريبات السالكين التي جربوها فألفوها صحيحة أن من أورثه ذلك حياة القلب والعقل . أدمن يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه شديد اللهج بها جدا ، وقال لي يوما : لهذين الاسمين وهما الحي القيوم تأثير عظيم في حياة القلب ، وكان يشير إلى أنهما الاسم الأعظم ، وسمعته يقول : من واظب على أربعين مرة كل يوم بين سنة الفجر وصلاة الفجر يا حي يا قيوم ، لا إله إلا أنت ، برحمتك أستغيث حصلت له حياة القلب ، ولم يمت قلبه .
[ ص: 447 ] ومن علم عبوديات وسر ارتباطها بالخلق والأمر ، وبمطالب العبد وحاجاته عرف ذلك وتحققه ، فإن كل مطلوب يسأل بالمناسب له ، فتأمل أدعية القرآن والأحاديث النبوية تجدها كذلك . الأسماء الحسنى والدعاء بها ،
وأما معرفة الأيام فيحتمل أن يريد به أيامه التي تخصه ، وما يلحقه فيها من الزيادة والنقصان ، ويعلم قصرها ، وأنها أنفاس معدودة منصرمة ، كل نفس منها يقابله آلاف آلاف من السنين في دار البقاء ، فليس لهذه الأيام الخالية قط نسبة إلى أيام البقاء ، والعبد منساق زمنه ، وفي مدة العمر إلى النعيم أو إلى الجحيم ، وهي كمدة المنام لمن له عقل حي وقلب واع ، فما أولاه أن لا يصرف منها نفسا إلا في أحب الأمور إلى الله ، فلو صرفه فيما يحبه وترك الأحب لكان مفرطا ، فكيف إذا صرفه فيما لا ينفعه ؟ فكيف إذا صرفه فيما يمقته عليه ربه ؟ فالله المستعان ولا قوة إلا به .
ويحتمل أن يريد بالأيام أيام الله التي أمر رسله بتذكير أممهم بها ، كما قال تعالى ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله وقد فسرت أيام الله بنعمه ، وفسرت بنقمه من أهل الكفر والمعاصي ، فالأول تفسير و ابن عباس و أبي بن كعب مجاهد ، والثاني تفسير مقاتل .
والصواب أن أيامه تعم النوعين ، وهي وقائعه التي أوقعها بأعدائه ، ونعمه التي ساقها إلى أوليائه ، وسميت هذه النعم والنقم الكبار المتحدث بها أياما لأنها ظرف لها ، تقول العرب : فلان عالم بأيام العرب وأيام الناس ، أي بالوقائع التي كانت في تلك الأيام ، فمعرفة هذه الأيام توجب للعبد استبصار العبر ، وبحسب معرفته بها تكون عبرته وعظمته ، قال الله تعالى لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب .
ولا يتم ذلك إلا بالسلامة من الأغراض ، وهي متابعة الهوى والانقياد لداعي النفس الأمارة بالسوء ، فإن اتباع الهوى يطمس نور العقل ، ويعمي بصيرة القلب ، ويصد عن اتباع الحق ، ويضل عن الطريق المستقيم ، فلا تحصل بصيرة العبرة معه البتة ، والعبد إذا اتبع هواه فسد رأيه ونظره ، فأرته نفسه الحسن في صورة القبيح ، والقبيح في [ ص: 448 ] صورة الحسن ، فالتبس عليه الحق بالباطل ، فأنى له الانتفاع بالتذكر ، أو بالتفكر ، أو بالعظة ؟ .