وأما : مفرد مطلق ، ومقرون بالعصيان . الفسوق : فهو في كتاب الله نوعان
والمفرد نوعان أيضا : فسوق كفر ، يخرج عن الإسلام ، وفسوق لا يخرج عن الإسلام ، فالمقرون كقوله تعالى ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون .
والمفرد الذي هو فسوق كفر كقوله تعالى يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله الآية ، وقوله عز وجل ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون وقوله : وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها الآية ، فهذا كله فسوق كفر .
وأما الفسوق الذي لا يخرج عن الإسلام فكقوله تعالى وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم الآية ، وقوله : ياأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ الآية ، فإن [ ص: 368 ] هذه الآية نزلت في لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الوليد بن عقبة بن أبي معيط بني المصطلق بعد الوقعة مصدقا ، وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية ، فلما سمع القوم بمقدمه تلقوه ، تعظيما لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله ، فهابهم فرجع من الطريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن بني المصطلق منعوا صدقاتهم ، وأرادوا قتلي ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم أن يغزوهم ، فبلغ القوم رجوعه فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا رسول الله ، سمعنا برسولك ، فخرجنا نتلقاه ونكرمه ، ونؤدي إليه ما قبلنا من حق الله ، فبدا له في الرجوع ، فخشينا أنه إنما رده من الطريق كتاب جاء منك لغضب غضبته علينا ، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله ، فاتهمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعث خفية في عسكر ، وأمره أن يخفي عليهم قدومه ، وقال له : انظر ، فإن رأيت منهم ما يدل على إيمانهم فخذ منهم زكاة أموالهم ، وإن لم تر ذلك فاستعمل فيهم ما تستعمل في الكفار ، ففعل ذلك خالد بن الوليد خالد ، ووافاهم ، فسمع منهم أذان صلاتي المغرب والعشاء ، فأخذ منهم صدقاتهم ، ولم ير منهم إلا الطاعة والخير ، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر ، فنزل ياأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا الآية .
والنبأ هو الخبر الغائب عن المخبر إذا كان له شأن ، والتبين طلب بيان حقيقته والإحاطة بها علما .
وهاهنا فائدة لطيفة ، وهي أنه سبحانه لم يأمر برد وتكذيبه ورد شهادته جملة ، وإنما أمر بالتبين ، فإن قامت قرائن وأدلة من خارج تدل على صدقه عمل بدليل الصدق ، ولو أخبر به من أخبر ، فهكذا ينبغي الاعتماد في رواية الفاسق وشهادته ، وكثير من الفاسقين يصدقون في أخبارهم ورواياتهم وشهاداتهم ، بل كثير منهم يتحرى الصدق غاية التحري ، وفسقه من جهات أخر ، فمثل هذا لا يرد خبره ولا شهادته ، ولو ردت شهادة مثل هذا وروايته لتعطلت أكثر الحقوق ، وبطل كثير من الأخبار الصحيحة ، ولاسيما من فسقه من جهة الاعتقاد والرأي ، وهو متحر للصدق ، فهذا لا يرد خبره ولا شهادته . خبر الفاسق
وأما من فسقه من جهة الكذب فإن كثر منه وتكرر ، بحيث يغلب كذبه على صدقه ، فهذا لا يقبل خبره ولا شهادته ، وإن ندر منه مرة ومرتين ، ففي رد شهادته وخبره بذلك قولان للعلماء ، وهما روايتان عن الإمام أحمد رحمه الله .
والمقصود ذكر الفسوق الذي لا يخرج إلى الكفر .
[ ص: 369 ] أعم من الفسوق الذي ترد به الرواية والشهادة . والفسوق الذي تجب التوبة منه
وكلامنا الآن فيما تجب التوبة منه ، وهو قسمان : فسق من جهة العمل ، وفسق من جهة الاعتقاد .
ففسق العمل نوعان : مقرون بالعصيان ومفرد .
فالمقرون بالعصيان : هو ارتكاب ما نهى الله عنه ، والعصيان : هو عصيان أمره ، كما قال الله تعالى لا يعصون الله ما أمرهم وقال موسى لأخيه هارون عليهما السلام ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن أفعصيت أمري وقال الشاعر :
أمرتك أمرا جازما فعصيتني فأصبحت مسلوب الإمارة نادما
فالفسق أخص بارتكاب النهي ، ولهذا يطلق عليه كثيرا ، كقوله تعالى وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم والمعصية أخص بمخالفة الأمر كما تقدم ، ويطلق كل منهما على صاحبه ، كقوله تعالى إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه فسمى مخالفته للأمر فسقا ، وقال وعصى آدم ربه فغوى فسمى ارتكابه للنهي معصية ، فهذا عند الإفراد ، فإذا اقترنا كان أحدهما لمخالفة الأمر ، والآخر لمخالفة النهي .والتقوى اتقاء مجموع الأمرين ، وبتحقيقها تصح بأن يعمل العبد بطاعة الله على نور من الله ، يرجو ثواب الله ، ويترك معصية الله ، على نور من الله ، يخاف عقاب الله . التوبة من الفسوق والعصيان ،
كفسق أهل البدع الذين يؤمنون بالله ورسوله واليوم الآخر ويحرمون ما حرم الله ، ويوجبون ما أوجب الله ، ولكن ينفون كثيرا مما أثبت الله ورسوله ، جهلا وتأويلا ، وتقليدا للشيوخ ، ويثبتون ما لم يثبته الله ورسوله كذلك . وفسق الاعتقاد
وهؤلاء كالخوارج المارقة ، وكثير من الروافض ، والقدرية ، والمعتزلة ، وكثير من الجهمية الذين ليسوا غلاة في التجهم .
وأما غالية الجهمية فكغلاة الرافضة ، ليس للطائفتين في الإسلام نصيب .
[ ص: 370 ] ولذلك أخرجهم جماعة من السلف من الثنتين والسبعين فرقة ، وقالوا : هم مباينون للملة .
وليس مقصودنا الكلام في أحكام هؤلاء ، وإنما المقصود تحقيق التوبة من هذه الأجناس العشرة .
بإثبات ما أثبته الله لنفسه ورسوله ، من غير تشبيه ولا تمثيل ، وتنزيهه عما نزه نفسه عنه ونزهه عنه رسوله ، من غير تحريف ولا تعطيل ، وتلقي النفي والإثبات من مشكاة الوحي ، لا من آراء الرجال ونتائج أفكارهم التي هي منشأ البدعة والضلالة . فالتوبة من هذا الفسوق :
فتوبة هؤلاء الفساق من جهة الاعتقادات الفاسدة بمحض اتباع السنة ، ولا يكتفى منهم بذلك أيضا حتى يبينوا فساد ما كانوا عليه من البدعة ، إذ التوبة من ذنب هي بفعل ضده ، ولهذا شرط الله تعالى في توبة الكاتمين ما أنزل الله من البينات والهدى البيان ، لأن ذنبهم لما كان بالكتمان ، كانت توبتهم منه بالبيان ، قال الله تعالى إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم وذنب المبتدع فوق ذنب الكاتم ، لأن ذاك كتم الحق ، وهذا كتمه ودعا إلا خلافه ، فكل مبتدع كاتم ولا ينعكس .
وشرط في الإخلاص; لأن ذنبه بالرياء ، فقال تعالى توبة المنافق إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ثم قال إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما ولذلك كان الصحيح من القولين أن إكذابه نفسه ، لأنه ضد الذنب الذي ارتكبه ، وهتك به عرض المسلم المحصن ، فلا تحصل التوبة منه إلا بإكذابه نفسه ، لينتفي عن المقذوف العار الذي ألحقه به بالقذف ، وهو مقصود التوبة . توبة القاذف
وأما من قال : إن توبته أن يقول أستغفر الله من القذف ، ويعترف بتحريمه ، فقول ضعيف لأن هذا لا مصلحة فيه للمقذوف ، ولا يحصل له به براءة عرضه مما قذفه به ، فلا يحصل به مقصود التوبة من هذا الذنب ، فإن فيه حقين : حقا لله ، وهو تحريم [ ص: 371 ] القذف ، فتوبته منه باستغفاره ، واعترافه بتحريم القذف ، وندمه عليه ، وعزمه على أن لا يعود ، وحقا للعبد ، وهو إلحاق العار به ، فتوبته منه بتكذيبه نفسه ، فالتوبة من هذا الذنب بمجموع الأمرين .
فإن قيل : إذا كان صادقا قد عاين الزنا ، فأخبر به ، فكيف يسوغ له تكذيب نفسه وقذفها بالكذب ، ويكون ذلك من تمام توبته ؟ .
قيل : هذا هو الإشكال الذي قال صاحب هذا القول لأجله ما قال إن توبته الاعتراف بتحريم القذف والاستغفار منه ، وهو موضع يحتاج فيه إلى بيان الكذب الذي حكم الله به على القاذف ، وأخبر أنه كاذب عنده ، ولو كان خبره مطابقا للواقع ، فنقول :
الكذب يراد به أمران ، أحدهما : الخبر غير المطابق لمخبره ، وهو نوعان : كذب عمد ، وكذب خطأ ، فكذب العمد معروف ، وكذب الخطأ ككذب أبي السنابل بن بعكك في فتواه للمتوفى عنها إذا وضعت حملها أنها لا تحل حتى تتم لها أربعة أشهر وعشر فقال النبي صلى الله عليه وسلم أبو السنابل ومنه قوله صلى الله عليه وسلم كذب لمن قال : حبط عمل عامر ، حيث قتل نفسه خطأ ، ومنه قول كذب من قالها : كذب عبادة بن الصامت أبو محمد ، حيث قال : الوتر واجب ، فهذا كله من كذب الخطأ ، ومعناه أخطأ قائل ذلك .
والثاني من : الخبر الذي لا يجوز الإخبار به ، وإن كان خبره مطابقا لمخبره ، كخبر القاذف المنفرد برؤية الزنا ، والإخبار به ، فإنه كاذب في حكم الله ، وإن كان خبره مطابقا لمخبره ، ولهذا قال تعالى أقسام الكذب فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون فحكم الله في مثل هذا أن يعاقب عقوبة المفتري الكاذب ، وإن كان خبره مطابقا ، وعلى هذا فلا تتحقق توبته حتى يعترف بأنه كاذب عند الله ، كما أخبر الله تعالى [ ص: 372 ] به عنه ، فإذا لم يعترف بأنه كاذب وجعله الله كاذبا ، فأي توبة له ؟ وهل هذا إلا محض الإصرار والمجاهرة بمخالفة حكم الله الذي حكم به عليه ؟