المسلك السادس
ويعبر عنها بالإخالة وبالمصلحة ، وبالاستدلال ، وبرعاية المقاصد ، ويسمى استخراجها تخريج المناط وهي عمدة كتاب القياس ، ومحل غموضه ووضوحه . المناسبة
ومعنى المناسبة : هي تعيين العلة بمجرد إبداء المناسبة ، مع السلامة عن القوادح ، لا بنص ولا غيره .
والمناسبة في اللغة الملاءمة ، والمناسب الملائم .
قال في المحصول : الناس ذكروا في تعريف المناسب شيئين :
( الأول ) : أنه المفضي إلى ما يوافق الإنسان تحصيلا وإبقاء ، وقد يعبر عن التحصيل بجلب المنفعة ، وعن الإبقاء بدفع المضرة; لأن ما قصد إبقاؤه فإزالته مضرة ، وإبقاؤه دفع للمضرة .
[ ص: 626 ] ثم هذا التحصيل والإبقاء ، قد يكون معلوما ، وقد يكون مظنونا ، وعلى التقديرين; فإما أن يكون دينيا أو دنيويا .
والمنفعة عبارة عن اللذة ، أو ما يكون طريقا إليها ، والمضرة عبارة عن الألم ، أو ما يكون طريقا إليه ، واللذة قيل في حدها : إنها إدراك الملائم ، والألم : إدراك المنافي .
والصواب عندي أنه لا يجوز تحديدهما; لأنهما من أظهر ما يجده الحي من نفسه ، ويدرك بالضرورة التفرقة بين كل واحد منهما ، وبينهما وبين غيرهما ، وما كان كذلك يتعذر تعريفه بما هو أظهر منه .
( الثاني ) : أنه الملائم لأفعال العقلاء في العادات ، فإنه يقال : هذه اللؤلؤة تناسب هذه اللؤلؤة في الجمع بينهما في سلك واحد متلائم ، انتهى .
وقد اختلف في تعريفها القائلون بمنع تعليل أفعال الله سبحانه بالأغراض ، والقائلون بتعليلها بها .
فالأولون قالوا : إنها الملائم لأفعال العقلاء في العادات ، أي ما يكون بحيث يقصد العقلاء تحصيله على مجاري العادة بتحصيل مقصود مخصوص .
والآخرون قالوا : إنها ما تجلب للإنسان نفعا ، أو تدفع عنه ضررا .
وقيل : هي ما لو عرض على العقول تلقته بالقبول . كذا قال الدبوسي .
قيل : وعلى هذا فإثباتها على الخصم متعذر; لأنه ربما يقول : عقلي لا يتلقى هذا بالقبول ، ومن ثم قال الدبوسي : هو حجة للناظر; لأنه لا يكابر نفسه لا للمناظر .
قال : والحق أنه يمكن إثباته على الجاحد بتبيين معنى المناسبة على وجه مضبوط ، فإذا أبداه المعلل فلا يلتفت إلى جحده انتهى . الغزالي
وهذا صحيح ، فإنه لا يلزم المستدل إلا ذلك .
وقال : إن المناسب وصف ظاهر منضبط ، يحصل عقلا من ترتيب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصودا من حصول مصلحة ودفع مفسدة ، فإن كان الوصف خفيا ، أو غير منضبط; اعتبر ملازمه ، وهو المظنة; لأن الغيب لا يعرف [ ص: 627 ] الغيب ، كالسفر للمشقة ، والفعل المقتضي عرفا عليه بالعمد في العمدية . ابن الحاجب
قال الصفي الهندي : وهو ضعيف; لأنه اعتبر في ماهية المناسبة ما هو خارج عنه ، وهو اقتران الحكم بالوصف ، وهو خارج عن ماهية المناسب ، بدليل أنه يقال : المناسبة مع الاقتران دليل العلة ، ولو كان الاقتران داخلا في الماهية لما صح هذا .
وأيضا فهو غير جامع ; لأن التعليل بالظاهرة المنضبطة جائز على ما اختاره قائل هذا الحد ، والوصفية غير متحققة فيها مع تحقق المناسبة .
وقد احتج على إفادتها للعلية بتمسك الصحابة بها ، فإنهم يلحقون غير المنصوص بالمنصوص ، إذا غلب على ظنهم أن يضاهيه لمعنى ، أو يشبهه . إمام الحرمين
ورد بأنه لم ينقل إلينا أنهم كانوا يتمسكون بكل ظن غالب ، فلا يبعد التعبد مع نوع من الظن الغالب ، ونحن لا نعلم ذلك النوع .
ثم قال : فالأولى الاعتماد على العمومات الدالة على الأمر بالقياس . إمام الحرمين