المسلك الخامس
السبر والتقسيم
وهو في اللغة الاختبار ، ومنه الميل الذي يختبر به الجرح ، فإنه يقال له المسبار ، [ ص: 623 ] وسمي هذا به ; لأن المناظر يقسم الصفات ويختبر كل واحدة منها ( في أنه ) هل تصلح للعلية أم لا ؟ وفي الاصطلاح هو قسمان :
( أحدهما ) : أن يدور بين النفي والإثبات; وهذا هو المنحصر .
( والثاني ) : أن يكون كذلك ، وهذا المنتشر .
( فالأول ) : أن تحصر الأوصاف التي يمكن التعليل بها للمقيس عليه ، ثم اختبارها في المقيس ، وإبطال ما لا يصلح منها بدليله ، وذلك الإبطال إما بكونه ملغى ، أو وصفا طرديا ، أو يكون فيه نقض ، أو كسر ، أو خفاء ، أو اضطراب ، فيتعين الباقي للعلية .
وقد يكون في القطعيات ، كقولنا : العالم إما أن يكون قديما ، أو حادثا ، بطل أن يكون قديما ، فثبت أنه حادث .
قد يكون في الظنيات ، نحو أن تقول : في قياس الذرة على البر ، في الربوية : بحثت عن أوصاف البر فما وجدت ثم ما يصلح للربوية في بادئ الرأي إلا الطعم ، والقوت ، والكيل : لكن الطعم ، والقوت لا يصلح لذلك ، بدليل كذا ، فتعين الكيل .
قال الصفي الهندي وحصول هذا القسم في الشرعيات عسر جدا .
ويشترط في صحة هذا المسلك أن يكون الحكم في الأصل معللا بمناسب ، خلافا وأن يقع الاتفاق على أن العلة لا تركيب فيها ، كما في مسألة الربا ، فأما لو لم يقع الاتفاق ، لم يكن هذا المسلك صحيحا; لأنه إذا بطل كونه علة مستقلة; جاز أن يكون جزءا من أجزائها ، وإذا انضم إلى غيره; صار علة مستقلة ، فلا بد من إبطال كونه علة أو جزء علة . للغزالي
ويشترط أيضا أن يكون حاصرا لجميع الأوصاف ، وذلك بأن يرافقه الخصم على انحصارها في ذلك ، أو يعجز عن إظهار وصف زائد ، وإلا فيكفي المستدل أن يقول : بحثت عن الأوصاف فلم أجد سوى ما ذكرته ، والأصل عدم ما سواها ، وهذا إذا كان أهلا للبحث .
ونازع في ذلك بعض الأصوليين ومنهم الأصفهاني ، فقال : قول المعلل في جواب طالب الحصر : بحثت وسبرت فلم أجد غير هذه الأشياء ، فإن ظفرت بعلة أخرى [ ص: 624 ] فأبرزها ، وإلا فليلزمك ما يلزمني ، قال : وهذا فاسد; لأن سبره لا يصلح دليلا; لأن الدليل ما يعلم به المدلول ، ومحال أن يعلم طالب الحصر الانحصار ببحثه ونظره ، وجهله لا يوجب على خصمه أمرا ، واختار ابن برهان التفصيل بين المجتهد وغيره .
( القسم الثاني ) : المنتشر ، وذلك بأن لا يدور بين النفي والإثبات ، أو دار ولكن كان الدليل على نفي علية ما عدا الوصف المعين فيه ظنيا .
فاختلفوا في ذلك على مذاهب :
( الأول ) : أنه ليس بحجة مطلقا ، لا في القطعيات ، ولا في الظنيات ، حكاه في البرهان عن بعض الأصوليين .
( الثاني ) : أنه حجة في العمليات فقط ; لأنه يحصل غلبة الظن ، واختاره ، إمام الحرمين الجويني وابن برهان ، وابن السمعاني ، قال الصفي الهندي : هو الصحيح .
( الثالث ) : أنه حجة للناظر دون المناظر ، واختاره . الآمدي
وقال في الأساليب : إنه يفيد الطالب مذهب الخصم ، دون تصحيح مذهب المستدل ، إذ لا يمنع أن يقول : ما أبطلته باطل ، وما اخترته باطل . إمام الحرمين
وحكى ابن العربي أنه دليل قطعي ، وعزاه إلى الشيخ أبي الحسن والقاضي ، وسائر أصحاب قال : وهو الصحيح ، فقد نطق به القرآن ضمنا ، وتصريحا ، في مواطن كثيرة . الشافعي ،
فمن الضمن قوله تعالى : وقالوا ما في بطون هذه الأنعام إلى قوله : حكيم عليم ومن التصريح قوله : ثمانية أزواج إلى قوله : الظالمين .
وقد أنكر بعض أهل الأصول أن يكون السبر والتقسيم مسلكا .
قال الأبياري في شرح البرهان : السبر يرجع إلى اختبار أوصاف المحل [ ص: 625 ] وضبطها ، والتقسيم يرجع إلى إبطال ما يظهر إبطاله منها ، فإذا لا يكون من الأدلة بحال ، وإنما تسامح الأصوليون بذلك .
قال ابن المنير : ( ومن الأسئلة ) القاصمة لمسلك السبر والتقسيم أن المنفي لا يخلو في نفس الأمر أن يكون مناسبا ، أو شبها ، أو طردا; لأنه إما إن يشتمل على مصلحة أو لا ، فإن اشتمل على مصلحة; فإما أن تكون منضبطة للفهم أو كلية لا تنضبط .
( فالأول ) : المناسبة .
( والثاني ) : الشبه .
وإن لم يشتمل على مصلحة أصلا; فهو الطرد المردود ، فإن كان ثم مناسبة أو شبه يعني لغي السبر والتقسيم ، وإن كان عريا عن المناسبة قطعا ، لم ينفع السبر والتقسيم أيضا .