الفصل الثالث
في الصداق
والنظر في الصداق في ستة مواضع :
الأول : في حكمه وأركانه .
الموضع الثاني : في تقرر جميعه للزوجة .
الموضع الثالث : في تشطيره .
الموضع الرابع : في التفويض وحكمه .
الموضع الخامس : الأصدقة الفاسدة وحكمها .
الموضع السادس : في اختلاف الزوجين في الصداق .
الموضع الأول
[ في حكمه وأركانه ]
وهذا فيه أربع مسائل :
الأولى : في حكمه .
الثانية : في قدره .
[ ص: 407 ] الثالثة : في جنسه ووصفه .
الرابعة : في تأجيله .
[ المسألة الأولى ]
[ في ] حكمه
- أما حكمه : فإنهم اتفقوا على أنه شرط من شروط الصحة ، وأنه لا يجوز التواطؤ على تركه لقوله تعالى : ( وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ) وقوله تعالى : ( فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن ) .
[ المسألة الثانية ]
[ في ] قدره
وأما قدره : فإنهم اتفقوا على أنه ليس لأكثره حد . واختلفوا في أقله ، فقال ، الشافعي وأحمد ، وإسحاق ، وفقهاء المدينة من التابعين : ليس لأقله حد ، وكل ما جاز أن يكون ثمنا وقيمة لشيء جاز أن يكون صداقا ، وبه قال وأبو ثور ابن وهب من أصحاب مالك . وقال طائفة بوجوب تحديد أقله ، وهؤلاء اختلفوا ، فالمشهور في ذلك مذهبان : أحدهما : مذهب مالك وأصحابه ، والثاني : مذهب أبي حنيفة وأصحابه :
فأما مالك ، فقال : أقله ربع دينار من الذهب أو ثلاثة دراهم كيلا من فضة ، أو ما ساوى الدراهم الثلاثة ( أعني : دراهم الكيل فقط في المشهور ) ، وقيل : أو ما يساوي أحدهما .
وقال أبو حنيفة : عشرة دراهم أقله ، وقيل : خمسة دراهم ، وقيل : أربعون درهما .
وسبب اختلافهم في التقدير سببان :
أحدهما : تردده بين أن يكون عوضا من الأعواض يعتبر فيه التراضي بالقليل كان أو بالكثير ، كالحال في البيوعات ; وبين أن يكون عبادة فيكون مؤقتا ، وذلك أنه من جهة أنه يملك به على المرأة منافعها على الدوام يشبه العوض ، ومن جهة أنه لا يجوز التراضي على إسقاطه يشبه العبادة .
والسبب الثاني : معارضة هذا القياس فالمقتضي التحديد لمفهوم الأثر الذي لا يقتضي التحديد .
أما القياس الذي يقتضي التحديد : فهو كما قلنا إنه عبادة والعبادات مؤقتة .
وأما الأثر الذي يقتضي مفهومه عدم التحديد : فحديث المتفق على صحته ، وفيه : " سهل بن سعد الساعدي " . قالوا : فقوله عليه الصلاة والسلام : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة ، فقالت : يا رسول الله إني قد وهبت نفسي لك ، فقامت قياما طويلا ، فقام رجل فقال : يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل معك من شيء تصدقها إياه ؟ فقال : ما عندي إلا إزاري ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أعطيتها إياه جلست لا إزار لك ، فالتمس شيئا ، فقال : لا أجد شيئا ، فقال عليه الصلاة والسلام : التمس ولو خاتما من حديد ، فالتمس فلم يجد شيئا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل معك شيء من القرآن ؟ قال : نعم ، سورة كذا ، وسورة كذا - لسور سماها - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد أنكحتكها بما معك من القرآن " دليل على أنه لا قدر لأقله لأنه لو كان له قدر لبينه ، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وهذا الاستدلال بين كما ترى مع أن القياس الذي اعتمده القائلون بالتحديد ليس [ ص: 408 ] تسلم مقدماته ، وذلك أنه انبنى على مقدمتين : التمس ولو خاتما من حديد
إحداهما : أن الصداق عبادة ، والثانية : أن العبادة مؤقتة . وفي كليهما نزاع للخصم ، وذلك أنه قد يلفى في الشرع من العبادات ما ليست مؤقتة ، بل الواجب فيها هو أقل ما ينطلق عليه الاسم . وأيضا فإنه ليس فيه شبه العبادات خالصا ، وإنما صار المرجحون لهذا القياس على مفهوم الأثر ، لاحتمال أن يكون ذلك الأثر خاصا بذاك الرجل ، لقوله فيه : " " وهذا خلاف للأصول ، وإن كان قد جاء في بعض رواياته أنه قال : " قد أنكحتكها بما معك من القرآن قم فعلمها " لما ذكر أنه معه من القرآن ، فقام فعلمها ، فجاء نكاحا بإجارة ، لكن لما التمسوا أصلا يقيسون عليه قدر الصداق لم يجدوا شيئا أقرب شبها به من نصاب القطع على بعد ما بينهما .
وذلك أن القياس الذي استعملوه في ذلك هو أنهم قالوا : عضو مستباح بمال ، فوجب أن يكون مقدرا ، أصله القطع ، وضعف هذا القياس هو من قبل الاستباحة فيهما هي مقولة باشتراك الاسم ، وذلك أن القطع غير الوطء ، وأيضا فإن القطع استباحة على جهة العقوبة والأذى ونقص خلقة ، وهذا استباحة على جهة اللذة والمودة ، ومن شأنه قياس الشبه على ضعفه أن يكون الذي به تشابه الفرع والأصل شيئا واحدا لا باللفظ بل بالمعنى ، وأن يكون الحكم إنما وجد للأصل من جهة الشبه ، وهذا كله معدوم في هذا القياس ، ومع هذا فإنه من الشبه الذي لم ينبه عليه اللفظ ، وهذا النوع من القياس مردود عند المحققين ، لكن لم يستعملوا هذا القياس في إثبات التحديد المقابل لمفهوم الحديث ، إذ هو في غاية الضعف ، وإنما استعملوه في تعيين قدر التحديد .
وأما القياس الذي استعملوه في معارضة مفهوم الحديث فهو أقوى من هذا ، ويشهد لعدم التحديد ما خرجه الترمذي : " " وقال : هو حديث حسن صحيح . أن امرأة تزوجت على نعلين ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرضيت من نفسك ومالك بنعلين ؟ فقالت : نعم ، فجوز نكاحها
ولما اتفق القائلون بالتحديد على قياسه على نصاب السرقة اختلفوا في ذلك بحسب اختلافهم في نصاب السرقة ، فقال مالك : هو ربع دينار أو ثلاثة دراهم ، لأنه النصاب في السرقة عنده . وقال أبو حنيفة : هو عشرة دراهم ، لأنه النصاب في السرقة عنده . وقال ابن شبرمة : هو خمسة دراهم ، لأنه النصاب عنده أيضا في السرقة .
وقد احتجت الحنفية لكون الصداق محددا بهذا القدر بحديث يروونه عن جابر عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال : " لا مهر بأقل من عشرة دراهم " . ولو كان هذا ثابتا لكان رافعا لموضع الخلاف ، لأنه كان يجب لموضع هذا الحديث أن يحمل حديث على الخصوص ، لكن حديث سهل بن سعد جابر هذا ضعيف عند أهل الحديث ، فإنه يرويه - قالوا - مبشر بن عبيد ، عن عن الحجاج بن أرطأة عطاء عن جابر ، ومبشر والحجاج ضعيفان ، وعطاء أيضا لم يلق جابرا ، ولذلك لا يمكن أن يقال : إن هذا الحديث معارض لحديث . سهل بن سعد