( تعرج ) قراءة الجمهور بالتاء على التأنيث ، وعبد الله والكسائي وابن مقسم وزائدة عن بالياء . ( والروح ) قال الجمهور : هو الأعمش جبريل ، خص بالذكر تشريفا ، وأخر هنا بعد الملائكة ، وقدم في قوله : يوم يقوم الروح والملائكة صفا . وقال مجاهد : ملائكة حفظة للملائكة الحافظين لبني آدم ، لا تراهم الحفظة كما لا نرى نحن حفظتنا . وقيل : الروح ملك غير جبريل عظيم الخلقة . وقال أبو صالح : خلق كهيئة الناس وليسوا بالناس . وقال : روح الميت حين تقبض إليه ، الضمير عائد على الله تعالى ، أي إلى عرشه وحيث يهبط منه أمره تعالى . وقيل : " إليه " أي : إلى المكان الذي هو محلهم وهو في السماء ; لأنها محل بره وكرامته ، والظاهر أن المعنى : أنها تعرج في يوم من أيامكم هذه ، ومقدار المسافة أن لو عرجها آدمي خمسون ألف سنة ، قاله قبيصة بن ذؤيب ابن عباس وابن إسحاق ، وجماعة من الحذاق منهم القاضي . فإن كان العارج ملكا ، فقال منذر بن سعيد مجاهد : المسافة هي من قعر الأرض السابعة إلى العرش . ومن جعل الروح جنس أنواع الحيوان . قال وهب : المسافة من وجه الأرض إلى منتهى العرش . وقال عكرمة والحكم : أراد مدة الدنيا ، فإنها خمسون ألف سنة لا يدري أحد ما مضى منها وما بقي ، أي : تعرج في مدة الدنيا وبقاء هذه البنية . وقال أيضا : هو يوم القيامة . وقيل : طوله ذلك العدد ، وهذا ظاهر ما جاء في الحديث في مانع الزكاة ، فإنه قال : ابن عباس في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة . وقال ابن عباس : قدره في رزاياه وهوله وشدته للكفار ذلك العدد . وفي الحديث : " يخف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة " . وقال وأبو سعيد الخدري عكرمة : مقدار ما ينقضي فيه من الحساب قدر ما يقضي بالعدل في خمسين ألف سنة من أيام الدنيا . وقال الحسن نحوه . وقيل : لا يراد حقيقة العدد ، إنما أريد به طول الموقف يوم القيامة وما فيه من الشدائد ، والعرب تصف أيام الشدة بالطول ، وأيام الفرح بالقصر . قال الشاعر يصف أيام الفرح والسرور :
ويوم كظل الرمح قصر طوله دم الزق عنا واصطفاق المزاهر
والظاهر أن قوله : في يوم متعلق بـ ( تعرج ) وقيل : بـ ( دافع ) والجملة من قوله : ( تعرج ) اعتراض . ولما كانوا قد سألوا استعجال العذاب ، وكان السؤال على سبيل الاستهزاء والتكذيب ، وكانوا قد وعدوا به ، أمره تعالى بالصبر ، ومن جعله من السيلان ، فالمعنى : أنه أشرف على الوقوع ، والضمير في ( يرونه ) عائد على العذاب أو على اليوم ، إذا أريد به يوم القيامة ، وهذا الاستبعاد هو على سبيل الإحالة منهم . ونراه قريبا أي : هينا في قدرتنا ، غير بعيد علينا ولا متعذر ، وكل ما هو آت قريب ، والبعد والقرب في الإمكان لا في المسافة . يوم تكون : منصوب بإضمار فعل ، أي : يقع يوم تكون ، أو يوم تكون السماء كالمهل كان [ ص: 334 ] كيت وكيت ، أو بـ ( قريبا ) أو بدل من ضمير " نراه " إذا كان عائدا على يوم القيامة . وقال : أو هو بدل من في يوم فيمن علقه بـ ( واقع ) . انتهى . ولا يجوز هذا ; لأن في يوم وإن كان في موضع نصب لا يبدل منه منصوب ; لأن مثل هذا ليس من المواضع التي تراعى في التوابع ; لأن حرف الجر فيها ليس بزائد ، ولا محكوم له بحكم الزائد كـ ( رب ) وإنما يجوز مراعاة المواضع في حرف الجر الزائد كقوله : الزمخشري
يا بني لبينى لستما بيد إلا يدا ليست لها عضد
ولذلك لا يجوز : مررت بزيد الخياط ، على مراعاة موضع بزيد ، ولا مررت بزيد وعمرا ، ولا غضبت على زيد وجعفرا ، ولا مررت بعمرو أخاك على مراعاة الموضع . ( فإن قلت ) : الحركة في ( يوم ) تكون حركة بناء لا حركة إعراب ، فهو مجرور مثل في يوم ( قلت ) : لا يجوز بناؤه على مذهب البصريين ; لأنه أضيف إلى معرب ، لكنه يجوز على مذهب الكوفيين ، فيتمشى كلام على مذهبهم إن كان استحضره وقصده . الزمخشري
( كالمهل ) تقدم الكلام عليه في سورة الدخان وتكون الجبال كالعهن المنفوش كما في القارعة ، لما نسفت طارت في الجو كالصوف المنفوش إذا طيرته الريح . قال الحسن : تسير الجبال مع الرياح ، ثم تنهد ، ثم تصير كالعهن ، ثم تنسف فتصير هباء . وقرأ الجمهور : ولا يسأل مبنيا للفاعل ، أي : لا يسأله نصرة ولا منفعة لعلمه أنه لا يجد ذلك عنده . وقال قتادة : لا يسأله عن حاله لأنها ظاهرة . وقيل : لا يسأله أن يحمل عنه من أوزاره شيئا ليأسه عن ذلك . وقيل : شفاعة . وقيل : " حميما " منصوب على إسقاط عن ، أي : عن حميم ، لشغله بما هو فيه . وقرأ أبو حيوة وشيبة وأبو جعفر بخلاف عن ثلاثتهم مبنيا للمفعول ، أي : لا يسأل إحضاره ، كل من المؤمن والكافر له سيما يعرف بها . وقيل : عن ذنوب حميمه ليؤخذ بها . والبزي
( يبصرونهم ) : استئناف كلام . قال : في المحشر يبصر الحميم حميمه ، ثم يفر عنه لشغله بنفسه . وقيل : يبصرونهم في النار . وقيل : يبصرونهم فلا يحتاجون إلى السؤال والطلب . وقال ابن عباس : ويجوز أن يكون " يبصرونهم " صفة ، أي : حميما مبصرين مصرفين إياهم . انتهى . و الزمخشري حميم حميما : نكرتان في سياق النفي فيعمان ، ولذلك جمع الضمير . وقرأ قتادة : " يبصرونهم " مخففا مع كسر الصاد ، أي : يبصر المؤمن الكافر في النار ، قاله مجاهد . وقال ابن زيد : يبصر الكافر من أضله في النار عبرة وانتقاما وحزنا . يود المجرم أي : الكافر ، وقد يندرج فيه المؤمن العاصي الذي يعذب . وقرأ الجمهور : من عذاب مضافا . وأبو حيوة بفتحها . ( وصاحبته ) : زوجته ( وفصيلته ) : أقرباؤه الأدنون ( تؤويه ) : تضمه انتماء إليها ، أو لياذا بها في النوائب . ثم ينجيه : عطف على ( يفتدي ) أي : ينجيه بالافتداء ، أو من تقدم ذكرهم . وقرأ : تؤويه وتنجيه بضم الهاءين . ( كلا ) : ردع لودادتهم الافتداء ، وتنبيه على أنه لا ينفع . ( إنها ) : الضمير للقصة ، و الزهري لظى نزاعة : تفسير لها أو للنار الدال عليها عذاب يومئذ و ( لظى ) بدل من الضمير ، و ( نزاعة ) خبر إن أو خبر مبتدأ ، و ( لظى ) خبر إن أي : هي نزاعة ، أو بدل من ( لظى ) أو خبر بعد خبر . كل هذا ذكروه ، وذلك على قراءة الجمهور برفع " نزاعة " . وقال : ويجوز أن يكون ضميرا مبهما ترجم عنه الخبر . انتهى . ولا أدري ما هذا المضمر الذي ترجم عنه الخبر ، وليس هذا من المواضع التي يفسر فيها المفرد الضمير ، ولولا أنه ذكر بعد هذا : أو ضمير القصة ، لحملت كلامه عليه . وقرأ الزمخشري ابن أبي عبلة وأبو حيوة ، و الزعفراني وابن مقسم وحفص واليزيدي في اختياره " نزاعة " بالنصب ، فتعين أن يكون ( لظى ) خبرا لـ ( إن ) والضمير في " إنها " عائد على النار الدال عليها ( عذاب ) وانتصب " نزاعة " على الحال المؤكدة أو المبينة ، والعامل فيها ( لظى ) وإن كان عاملا لما فيه من معنى التلظي ، كما عمل العلم في الظرف في قوله :
أنا أبو المنهال بعض الأحيان
أي : المشهور بعض [ ص: 335 ] الأحيان ، أو على الاختصاص للتهويل ، قاله ، وكأنه يعني القطع . فالنصب فيها كالرفع فيها ، إذا أضمرت ( هو ) فتضمر هنا ، أعني تدعو ، أي حقيقة يخلق الله فيها الكلام كما يخلقه في الأعضاء ، قاله الزمخشري وغيره ، تدعوهم بأسمائهم وأسماء آبائهم . وقال ابن عباس : وكما خلقه في الشجرة . انتهى ، فلم يترك مذهب الاعتزال . وقال الزمخشري الخليل : مجاز عن استدنائها منهم وما توقعه بهم من عذابها . وقال ثعلب : يهلك ، تقول العرب : دعا الله ، أي أهلكك ، وحكاه الخليل عن العرب ، قال الشاعر :
ليالي يدعوني الهوى فأجيبه وأعين من أهوى إلي رواني
( وقال آخر ) :
ترفع للعيان وكل فج طباه الرعي منه والخلاء
يصف ظليما ، وطباه أي : دعاه ، والهوى والرعي لا يدعوان حقيقة ، ولكنه لما كان فيهما ما يجذب صارا داعيين مجازا . وقيل : تدعو ، أي : خزنة جهنم ، أضيف دعاؤهم إليها من أدبر عن الحق وتولى وجمع فأوعى أي : وجمع المال ، فجعله في وعاء وكنزه ولم يؤد حق الله فيه ، وهذه إشارة إلى كفار أغنياء . وقال الحكيم : كان عبد الله بن حكيم لا يربط كيسه ويقول : سمعت الله يقول : وجمع فأوعى .
إن الإنسان جنس ، ولذلك استثنى منه إلا المصلين . وقيل : الإشارة إلى الكفار . وقال ثعلب : قال لي محمد بن عبد الله بن طاهر : ما الهلع ؟ فقلت : قد فسره الله تعالى ، ولا يكون تفسير أبين من تفسيره ، وهو الذي إذا ناله شر أظهر شدة الجزع ، وإذا ناله خير بخل به ومنعه الناس . انتهى .
ولما كان شدة الجزع والمنع متمكنة في الإنسان ، جعل كأنه خلق محمولا عليهما ، كقوله : خلق الإنسان من عجل والخير : المال . إلا المصلين : استثناء كما قلنا من الإنسان ، ولذلك وصفهم بما وصفهم به من الصبر على المكاره ، والصفات الجميلة التي حاوروها . وقرأ الجمهور : على صلاتهم بالإفراد . والحسن جمعا . وديمومتها ، قال الجمهور : المواظبة عليها . وقال : صلاتها لوقتها . وقال عقبة بن عامر : يقرون فيها ولا يلتفتون يمينا ولا شمالا ، ومنه المال الدائم . وقال ابن مسعود : دوامهم عليها أن يواظبوا على أدائها ولا يشتغلون عنها بشيء ، ومحافظتهم عليها أن يراعوا إسباغ الوضوء لها ومواقيتها ، ويقيموا أركانها ويكملوها بسننها وأدائها ، ويحفظونها من الإحباط باقتران المآثم ، والدوام يرجع إلى أنفس الصلوات والمحافظة على أحوالها . انتهى . وهو جوابه لسؤاله : ( فإن قلت ) : كيف قال : الزمخشري على صلاتهم دائمون ثم قال : على صلاتهم يحافظون . وأقول : إن الديمومة على الشيء والمحافظة عليه شيء واحد ، لكنه لما كانت الصلاة هي عمود الإسلام بولغ في التوكيد فيها ، فذكرت أول خصال الإسلام المذكورة في هذه السورة وآخرها ; ليعلم مرتبتها في الأركان التي بني الإسلام عليها ، والصفات التي بعد هذه تقدم تفسيرها ، ومعظمها في سورة قد أفلح المؤمنون . وقرأ الجمهور : " بشهادتهم " على الإفراد . و السلمي وأبو عمرو وحفص : على الجمع .