[ ص: 363 ] والمتجاورات المدن وما كان عامرا ، وغير المتجاورات الصحاري وما كان غير عامر . قال ابن عطية : والذي يظهر من وصفه لها بالتجاور إنما هو من تربة واحدة ، ونوع واحد . وموضع العبرة في هذا أبين ؛ لأنها مع اتفاقها في التربة والماء ، تفضل القدرة والإرادة بعض أكلها على بعض ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سئل عن هذه الآية فقال : " الدقل والقارس ، والحلو والحامض " وقال ابن عطية : وقيد منها في هذا المثال ما جاور وقرب بعضه من بعض ؛ لأن اختلاف ذلك في الأكل أغرب . وفي بعض المصاحف : ( قطعا متجاورات ) بالنصب على ( جعل ) وقرأ الجمهور : ( وجنات ) بالرفع ، وقرأ الحسن : بالنصب ، بإضمار فعل . وقيل : عطفا على ( رواسي ) . وقال : بالعطف على ( الزمخشري زوجين اثنين ) ، أو بالجر على ( كل الثمرات ) انتهى . والأولى إضمار فعل لبعد ما بين المتعاطفين في هذه التخاريج ، والفصل بينهما بجمل كثيرة . وقرأابن كثير وأبو عمرو وحفص : ( وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان ) بالرفع في الجميع على مراعاة ( قطع ) . وقال ابن عطية : عطفا على أعناب ، وليست عبارة محررة أيضا ؛ لأن فيها ما ليس بعطف وهو قوله : ( صنوان ) وقرأ باقي السبعة : بخفض الأربعة على مراعاة ( من أعناب ) قال : وجعل الجنة من الأعناب من رفع الزرع ، والجنة حقيقة إنما هي الأرض التي فيها الأعناب ، وفي ذلك تجوز ومنه قول الشاعر :
كأن عيني في غربي مقبلة من النواضح تسقي جنة سحقا
أي : نخيل جنة ؛ إذ لا يوصف بالسحق إلا النخل . ومن خفض الزرع فالجنات من مجموع ذلك لا من الزرع وحده ، لأنه لا يقال للمزرعة جنة إلا إذا خالطها ثمرات . وقرأ الجمهور : ( صنوان ) بكسر الصاد فيهما ، وابن مصرف والسلمي : بضمها . وزيد بن علي والحسن وقتادة : بفتحها ، وبالفتح هو اسم للجمع ، كالسعدان . وقرأ عاصم وابن عامر : يسقى بالياء ؛ أي : يسقى ما ذكر . وباقي السبعة بالتاء ، وهي قراءة وزيد بن علي الحسن وأبي جعفر وأهل مكة ؛ أنثوا لعود الضمير على لفظ ما تقدم ، ولقوله : و ( نفضل ) بالنون . وحمزة : بالياء ، والكسائي وابن محيصن : بالياء في تسقى وفي ( نفضل ) وقرأ ، يحيى بن يعمر وأبو حيوة ، والحلبي عن عبد الوارث : و ( يفضل ) بالياء وفتح الضاد وبعضها بالرفع . قال أبو حاتم : وجدته كذلك في مصحف يحيى بن يعمر ، وهو أول من نقط المصاحف ، وتقدم في البقرة خلاف القراء في ضم الكاف من ( الأكل ) وسكونها ، و ( الأكل ) بضم الهمزة : المأكول كالنقض بمعنى المنقوض ، وبفتحها : المصدر . والظاهر من تفسير أكثر المفسرين للصنوان أن يكون قوله : ( صنوان ) صفة لقوله : ( ونخيل ) . ومن فسره منهم بالمثل جعله وصفا لجميع ما تقدم أي : أشكال ، وغير أشكال . قيل : ونظير هذه الكلمة قنو وقنوان ، ولا يوجد لهما ثالث ، ونص على العنوان لأنها بمثال التجاور في القطع ، فظهر فيها غرابة اختلاف الأكل . ومعنى ( بماء واحد ) ماء مطر ، أو ماء بحر ، أو ماء نهر ، أو ماء عين ، أو ماء نبع لا يسيل على وجه الأرض ، وخص التفضيل في الأكل وإن كانت متفاضلة في غيره ؛ لأنه غالب وجوه الانتفاع من الثمرات . ألا ترى إلى تقاربها في الأشكال ، والألوان ، والروائح ، والمنافع ، وما يجري مجرى ذلك ، قيل : نبه الله تعالى في هذه الآية على قدرته وحكمته ، وأنه المدبر للأشياء كلها ، وذلك أن الشجرة تخرج أغصانها وثمراتها في وقت معلوم لا تتأخر عنه ولا تتقدم ، ثم يتصعد الماء في ذلك الوقت علوا علوا وليس من طبعه إلا التسفل ، يتفرق ذلك الماء في الورق والأغصان والثمر كل بقسطه وبقدر ما فيه صلاحه ، ثم تختلف طعوم الثمار ، والماء واحد ، والشجر جنس واحد ، وكل ذلك دليل على مدبر دبره وأحكمه ، لا يشبه المخلوقات . قال الراجز :والأرض فيها عبرة للمعتبر تخبر عن صنع مليك مقتدر
[ ص: 364 ] تسقى بماء واحد أشجارها وبقعة واحدة قرارها
والشمس والهواء ليس يختلف وأكلها مختلف لا يأتلف
لو أن ذا من عمل الطبائع أو أنه صنعة غير صانع لم يختلف
وكان شيئا واحدا هل يشبه الأولاد إلا الوالدا الشمس والهواء يا معاند
والماء والتراب شيء واحد فما الذي أوجب ذا التفاضلا
إلا حكيم لم يرده باطلا