وقال : المد البسط إلى ما لا يرى منتهاه ، فالمعنى : جعل الأرض حجما يسيرا لا يقع البصر على منتهاه ، فإن الأرض لو كانت أصغر حجما مما هي الآن عليه لما كمل الانتفاع بها ، انتهى . وهذا الذي ذكره من أنها لو كانت أصغر . . . . . إلى آخره غير مسلم ؛ لأن المنتفع به من الأرض المعمور ، والمعمور أقل من غير المعمور بكثير ، فلو أراد تعالى أن يجعلها مقدار المعمور المنتفع به لم يكن ذلك ممتنعا ، فتحصل في قوله : ( أبو بكر الأصم مد الأرض ) ثلاث تأويلات : بسطها بعد أن كانت مجتمعة ، واختصاصها بمقدار معين ، وجعل حجمها كبيرا لا يرى منتهاه . والرواسي : الثوابت ، ومنه قول الشاعر :
به خالدات ما يرمن وهامد وأشعث أرسته الوليدة بالفهر
والمعنى : جبالا رواسي ، وفواعل الوصف لا يطرد إلا في الإناث ، إلا أن جمع التكسير من المذكر الذي لا يعقل يجري مجرى جمع الإناث ، وأيضا فقد غلب على الجبال وصفها بالرواسي ، وصارت الصفة تغني عن الموصوف ، فجمع جمع الاسم كحائط وحوائط وكاهل وكواهل . وقيل : ( رواسي ) جمع راسية ، والهاء للمبالغة ، وهو : وصف الجبل . كانت الأرض مضطربة فثقلها الله بالجبال في أحيازها فزال اضطرابها ، والاستدلال بوجود الجبال على وجود الصانع القادر الحكيم . قيل : من جهة أن طبيعة الأرض واحدة ، فحصول الجبل في بعض جوانبها دون بعض لا بد أن يكون بتخليق قادر حكيم ، ومن جهة ما يحصل منها من المعادن الجوهرية والرخامية وغيرها كالنفط والكبريت ، يكون الجبل واحدا في الطبع ، وتأثير الشمس واحد دليل على أن ذلك بتقدير قادر قاهر متعال عن مشابهة الممكنات ، ومن جهة تولد الأنهار منها . وقيل : وذلك لأن الجبل جسم صلب ، ويتصاعد بخاره من قعر الأرض إليه ويحتبي هناك ، فلا يزال يتكامل فيه فيحصل بسببه مياه كثيرة ، فلقوتها تشق وتخرج وتسيل على وجه الأرض ، ولهذا في أكثر الأمر إذا ذكر الله تعالى الجبال ذكر الأنهار كهذه الآية . وكقوله : ( وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا ) ، ( وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا ) فقال المفسرون : الأنهار : المياه الجارية في الأرض . وقال الكرماني : مسيل الماء ، وتقدم الكلام في الأنهار في أوائل سورة البقرة . والظاهر أن قوله : ( من كل الثمرات ) متعلق بجعل . ولما ذكر الأنهار ذكر ما ينشأ عنها وهو الثمرات . والزوج هنا : الصنف الواحد الذي هو نقيض الاثنين ، يعني أنه [ ص: 362 ] حين مد الأرض جعل ذلك ، ثم تكثرت وتنوعت . وقيل : أراد بالزوجين الأسود والأبيض ، والحلو والحامض ، والصغير والكبير وما أشبه ذلك من الأصناف المختلفة .وقال ابن عطية : وهذه الآية تقتضي أن كل ثمرة موجود فيها نوعان ، فإن اتفق أن يوجد من ثمرة أكثر من نوعين فغير ضار في معنى الآية . وقال الكرماني : الزوج واحد ، والزوج اثنان ، ولهذا قيد ليعلم أن المراد بالزوج هنا الفرد لا التثنية ، فيكون أربعا ، وخص اثنين بالذكر ، وإن كان من أجناس الثمار ما يزيد على ذلك ؛ لأنه الأقل ، إذ لا نوع تنقص أصنافه عن اثنين ، انتهى .
ويقال : إن في كل ثمرة ذكرا وأنثى ، وأشار إلى ذلك الفراء . وقال أبو عبد الله الرازي : لما خلق الله تعالى العالم وخلق فيه الأشجار ، خلق من كل نوع من الأنواع اثنين فقط . فلو قال : خلق زوجين ، لم يعلم أن المراد النوع أو الشخص ، فلما قال : اثنين علمنا أنه أول ما خلق من كل زوجين اثنين لا أقل ولا أزيد ، فالشجر والزرع كبني آدم ، حصل منهم كثرة ، وابتداؤهم من زوجين اثنين بالشخص وهما آدم وحواء . والاستدلال بخلق الثمرات على ما ذكر تعالى من جهة ربو الجنة في الأرض ، وشق أعلاها وأسفلها ، فمن الشق الأعلى الشجرة الصاعدة ، ومن الأسفل العروق الغائصة ، وطبيعة تلك الجنة واحدة ، وتأثيرات الطبائع والأفلاك والكواكب فيها واحد ، ثم يخرج من الأعلى على ما يذهب صعدا في الهواء ، ومن الأسفل ما يغوص في الثرى ، ومن المحال أن يتولد من الطبيعة الواحدة طبيعتان متضادتان ، فعلمنا أن ذلك بتقدير قادر حكيم . ثم تلك الشجرة يكون بعضها خشبا ، وبعضها لوزا ، وبعضها ثمرا ، ثم تلك الثمرة يحصل فيها أجسام مختلفة الطبائع وذلك بتقدير القادر الحكيم ، انتهى . وفيه تلخيص .
وقيل : تم الكلام عند قوله : ( ومن كل الثمرات ) فيكون معطوفا على ما قبله من عطف المفردات ، ويتعلق بقوله : ( وجعل فيها رواسي ) فالمعنى : أنه جعل في الأرض من كل ذكر وأنثى اثنين ، وقيل : الزوجان الشمس والقمر ، وقيل : الليل والنهار ( يغشي الليل النهار ) تقدم تفسير هذه الجملة وقراآتها في الأعراف . وخص المتفكرين ؛ لأن ما احتوت عليه هذه الآيات من الصنيع العجيب لا يدرك إلا بالتفكر .