وقال ابن عطية : هذه الآية توبيخ للكفرة ؛ أي : إن تعجب يا محمد من جهالتهم وإعراضهم عن الحق ، فهم أهل لذلك ، وعجيب وغريب أن تنكر قلوبهم العود بعد كوننا خلقا جديدا . ويحتمل اللفظ منزعا آخر : إن كنت تريد عجبا فهلم ، فإن من أعجب العجب قولهم ، انتهى . واختلف القراء في الاستفهامين إذا اجتمعا في أحد عشر موضعا ، هنا موضع ، وكذا في المؤمنين ، وفي العنكبوت ، وفي النمل ، وفي السجدة ، وفي الواقعة ، وفي والنازعات ، وفي بني إسرائيل موضعان ، وكذا في والصافات .
وقرأ نافع بجعل الأول استفهاما ، والثاني خبرا ، إلا في العنكبوت والنمل بعكس والكسائي نافع . وجمع بين الاستفهامين في العنكبوت ، وأما في النمل فعلى أصله إلا أنه زاد نونا فقرأ : ( إننا لمخرجون ) وقرأ الكسائي ابن عامر بجعل الأول خبرا ، والثاني استفهاما ، إلا في النمل والنازعات فعكس ، وزاد في النمل نونا كالكسائي . وإلا في الواقعة فقرأهما باستفهامين ، وهي قراءة باقي السبعة في هذا الباب ، إلا ابن كثير وحفصا قرأ في العنكبوت بالخبر في الأول وبالاستفهام في الثاني ، وهم على أصولهم في اجتماع الهمزتين من تخفيف [ ص: 366 ] وتحقيق وفصل بين الهمزتين وتركه . وقولهم : ( فعجب ) هو خبر مقدم ولا بد فيه من تقدير صفة ؛ لأنه لا يتمكن المعنى بمطلق فلا بد من قيده ، وتقديره - والله أعلم - : فعجب أي عجب ، أو فعجب غريب ، وإذا قدرناه موصوفا جاز أن يعرب مبتدأ ؛ لأنه نكرة فيها مسوغ الابتداء وهو الوصف ، وقد وقعت موقع الابتداء ، ولا يضر كون الخبر معرفة ، ذلك كما أجاز ذلك في كم مالك ؟ لمسوغ الابتداء فيه وهو الاستفهام ، وفي نحو : اقصد رجلا خير منه أبوه ، لمسوغ الابتداء أيضا ، وهو كونه عاملا فيما بعده ، وقال سيبويه أبو البقاء : وقيل عجب بمعنى معجب ، قال : فعلى هذا يجوز أن يرتفع قولهم به ، انتهى . وهذا الذي أجازه لا يجوز ، لأنه لا يلزم من كون الشيء بمعنى الشيء أن يكون حكمه في العمل كحكمه ، فمعجب يعمل ، وعجب لا يعمل ، ألا ترى أن فعلا كذبح ، وفعلا كقبض ، وفعلة كغرفة ، هي بمعنى مفعول ، ولا يعمل عمله ، فلا تقول : مررت برجل ذبح كبشه ، ولا برجل قبض ماله ، ولا برجل غرف ماءه ، بمعنى مذبوح كبشه ومقبوض ماله ومعروف ماؤه . وقد نصوا على أن هذه تنوب في الدلالة لا في العمل عن المفعول . وقد حصر النحويون ما يرفع الفاعل ، والظاهر أن " أئذا " معمول لقولهم محكي به . وقال : ( الزمخشري أئذا كنا ) إلى آخر قولهم يجوز أن يكون في محل الرفع بدلا من قولهم ، انتهى . هذا إعراب متكلف ، وعدول عن الظاهر . و " إذا " متمحضة للظرف وليس فيها معنى الشرط ، فالعامل فيها محذوف يفسره ما يدل عليه الجملة الثانية ، وتقريره : أنبعث ، أو أنحشر . ( أولئك ) إشارة إلى قائل تلك المقالة ، وهو تقرير مصمم على إنكار البعث ، فلذلك حكم عليهم بالكفر إذ عجزوا قدرته من إعادة ما أنشأ واخترع ابتداء . ولما حكم عليهم بالكفر في الدنيا ذكر ما يئولون إليه في الآخرة على سبيل الوعيد ، وأبرز ذلك في جملة مستقلة مشار إليهم . والظاهر أن الأغلال تكون حقيقة في أعناقهم كالأغلال ، ثم ذكر ما يستقرون عليه في الآخرة ، كما قال : ( إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل ) وقيل : يحتمل أن يكون مجازا أي : هم مغلولون عن الإيمان ، فتجري " إذا " مجرى الطبع والختم على القلوب كما قال تعالى : ( إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا ) وكما قال الشاعر :
لهم عن الرشد أغلال وأقياد
وقيل : الأغلال هنا عبارة عن أعمالهم الفاسدة في أعناقهم كالأغلال ، ثم ذكر ما يستقرون عليه في الآخرة ، وأبرز ذلك في جملة مستقلة - مشارا إليهم - رادة عليهم ما أنكروه من البعث ، إذ لا يكون أصحاب النار إلا بعد الحشر ، ولما كانوا متوعدين بالعذاب إن أصروا على الكفر ، وكانوا مكذبين بما أنذروا به من العذاب ، سألوا واستعجلوا في الطلب أن يأتيهم العذاب وذلك على سبيل الاستهزاء كما قالوا : ( فأمطر علينا حجارة ) ، وقالوا : ( أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا ) .قال : السيئة العذاب ، والحسنة العافية . وقال ابن عباس قتادة : بالشر قبل الخير . وقيل : بالبلاء والعقوبة قبل الرخاء والعافية ، وهذه الأقوال متقاربة . ( وقد خلت من قبلهم المثلات ) أي : يستعجلونك بالسيئة مع علمهم بما حل بغيرهم من مكذبي الرسل في الأمم السالفة ، وهذا يدل على سخف عقولهم ، إذ يستعجلون بالعذاب والحالة هذه ، فلو أنه لم يسبق تعذيب أمثالهم لكانوا ربما يكون لهم عذر ، ولكنهم لا يعتبرون فيستهزئون . قال : ( المثلات ) العقوبات المستأصلات ، كمثلات قطع الأنف والأذن ونحوهما . وقال ابن عباس : النقمات . وقال السدي قتادة : وقائع الله الفاضحة ، كمسخ القردة والخنازير . وقال مجاهد : الأمثال المضروبة . وقرأ الجمهور : بفتح الميم وضم التاء ، ومجاهد بفتحهما . وقرأ والأعمش عيسى بن عمير وفي رواية الأعمش وأبو بكر : بضمهما . وابن وثاب : بضم الميم وسكون الثاء . وابن مصرف : بفتح الميم وسكون الثاء . و ( لذو مغفرة للناس على ظلمهم ) ترجية للغفران ، و ( على ظلمهم ) في موضع الحال ، والمعنى : أنه يغفر لهم مع ظلمهم أنفسهم باكتساب الذنوب ؛ أي : ظالمين أنفسهم . قال : ليس في القرآن [ ص: 367 ] آية أرجى من هذه . وقال ابن عباس : ليغفر لهم في الآخرة . وقال الطبري القاسم بن يحيى وقوم : ليغفر لهم الظلم السالف بتوبتهم في الآنف . وقيل : ليغفر السيئات الصغيرة لمجتنب الكبائر . وقيل : ليغفر لهم بستره وإمهاله ، فلا يعجل لهم العذاب مع تعجيلهم بالمعصية . قال ابن عطية : والظاهر من معنى المغفرة هنا هو ستره في الدنيا ، وإمهاله للكفرة . ألا ترى التيسير في لفظ مغفرة ، وأنها منكرة مقلدة ، وليس فيها مبالغة كما في قوله تعالى : ( وإني لغفار لمن تاب ) ومحط الآية يعطي هذا حكمه عليهم بالنار . ثم قال : ويستعجلونك ، فلما ظهر سوء فعلهم وجب في نفس السامع تعذيبهم ، فأخبر بسيرته في الأمم ، وأنه يمهل مع ظلم الكفرة ، انتهى .
و ( لشديد العقاب ) تخويف وارتقاب بعد ترجية . وقال : لما نزلت هذه الآية قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " سعيد بن المسيب لولا عفو الله ومغفرته لما هنأ لأحد عيش ، ولولا عقابه لاتكل كل أحد " وفي حديث آخر : " إن العبد لو علم قدر عفو الله لما أمسك عن ذنب ، ولو علم قدر عقوبته لقمع نفسه في عبادة الله عز وجل " .
( إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه ) عن : لما نزلت وضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده على صدره فقال : " ابن عباس أنا منذر " وأومأ بيده إلى منكب علي وقال : " أنت الهادي يا علي ، بك يهتدي من بعدي " . وقال القشيري : نزلت في النبي - صلى الله عليه وسلم - ، و ( الذين كفروا ) مشركو العرب ، أو من أنكر نبوته من مشركيهم والكفار ، ولم يعتدوا بالآيات الخارقة المنزلة كانشقاق القمر ، وانقياد الشجر ، وانقلاب العصا سيفا ، ونبع الماء من بين الأصابع وأمثال هذه . فاقترحوا عنادا آيات كالمذكورة في سبحان ، وفي الفرقان كالتفجير للينبوع ، والرقي في السماء ، والملك ، والكنز ، فقال تعالى لنبيه : ( وعلي بن أبي طالب إنما أنت منذر ) تخوفهم من سوء العاقبة ، وناصح كغيرك من الرسل ، ليس لك الإتيان بما اقترحوا . إذ قد أتى بآيات عدد الحصا ، والآيات كلها متماثلة في صحة الدعوى ، لا تفاوت فيها . فالاقتراح إنما هو عناد ، ولم يجر الله العادة بإظهار الآيات المقترحة إلا للآية التي حتم بعذابها واستئصالها .
و ( هاد ) يحتمل أن يكون قد عطف على ( منذر ) وفصل بينهما بقوله : ( لكل قوم ) وبه قال : عكرمة وأبو الضحى . فإن أخذت : ( ولكل قوم هاد ) على العموم فمعناه : وداع إلى الهدى ، كما قال : ( بعثت إلى الأسود والأحمر ) فإن أخذت هاد على حقيقته فلكل قوم مخصوص ؛ أي : ولكل قوم قائلين هاد . وقيل : ولكل أمة سلفت هاد ؛ أي : نبي يدعوهم . والقصد : فليس أمرك ببدع ولا منكر ، وبه قال : مجاهد وابن زيد قال : نبي يدعوهم بما يعطى من الآيات ، لا بما يتحكمون فيه من الاقتراحات ، وتبعهم والزجاج فقال : هاد من الأنبياء يهديهم إلى الدين ، ويدعوهم إلى الله بوجه من الهداية ، وبآية خص بها ، ولم يجعل الأشياء شرعا واحدا في آيات مخصوصة . وقالت فرقة : الهادي في هذه الآية هو الله تعالى ، روي أن ذلك عن الزمخشري ابن عباس ومجاهد . و ( هاد ) : على هذا مخترع للإرشاد . قال وابن جبير ابن عطية : وألفاظ تتعلق بهذا المعنى ، وتعرف أن الله تعالى هو الهادي من غير هذا الموضع . وقال : في هذا القول وجه آخر : وهو أن يكون المعنى : أنهم يجحدون كون ما أنزل عليك آيات ويعاندون ، فلا يهمنك ذلك إنما أنت منذر ، فما عليك إلا أن تنذر ، لا أن تثبت الإيمان بالإلجاء ، والذي يثبته بالإلجاء هو الله تعالى ، انتهى . ودل كلامه على الاعتزال . وقال في معنى القول الذي تبع فيه الزمخشري مجاهدا ، وابن زيد ما نصه : ولقد دل بما أردفه من ذكر آيات علمه وتقديره الأشياء على قضايا حكمته ، أن إعطاء كل منذر آيات أمر مدبر بالعلم النافذ ، مقدر بالحكمة الربانية . ولو علم في إجابتهم إلى مقترحهم خيرا أو مصلحة لأجابهم إليه . وقال أيضا في معنى أن الهادي هو الله تعالى أي : بالإلجاء على زعمه [ ص: 368 ] ما نصه : وأما هذا الوجه الثاني فقد دل به على أن من هذه القدرة قدرته وهذا علمه ، هو القادر وحده على هدايتهم العالم بأي طريق يهديهم ، ولا سبيل إلى ذلك لغيره ، انتهى . وقالت فرقة : الهادي : الزمخشري ، وإن صح ما روي عن علي بن أبي طالب مما ذكرناه في صدر هذه الآية ، فإنما جعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ابن عباس مثالا من علماء الأمة وهداتها إلى الدين ، فكأنه قال : أنت يا علي بن أبي طالب علي هذا وصفك ، ليدخل في ذلك أبو بكر وعمر وعثمان وسائر علماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، ثم كذلك علماء كل عصر ، فيكون المعنى على هذا : إنما أنت يا محمد منذر ، ولكل قوم في القديم والحديث دعاة هداة إلى الخير . وقال أبو العالية : الهادي : العمل . وقال علي بن عيسى : ولكل قوم سبقهم إلى الهدى إلى نبي أولئك القوم . وقيل : ( هاد ) قائد إلى الخير أو إلى الشر ، قال تعالى في الخير : ( وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد ) وقال في الشر : ( فاهدوهم إلى صراط الجحيم ) قاله أبو صالح . ووقف ابن كثير على ( هاد ) و ( واق ) حيث وقعا ، وعلى ( وال ) هنا و ( باق ) في النحل بإثبات الياء ، وباقي السبعة بحذفها . وفي الإقناع لأبي جعفر بن الباذش عن ابن مجاهد : الوقف على جميع الباب لابن كثير بالياء ، وهذا لا يعرفه المكيون . وفيه عن أبي يعقوب الأزرق ، عن أنه خيره في الوقف في جميع الباب بين أن يقف بالياء وبين أن يقف بحذفها . والباب هو كل منقوص منون غير منصرف . ورش