استطراد لانتهاز الفرصة لوصف ضلال أهل الشرك وسفالة تفكيرهم ، فهو عطف على جملة الذي له ملك السماوات والأرض وما تلاها مما هو استدلال على انفراده تعالى بالإلهية ، وأردفت بقوله : ( وخلق كل شيء ) الشامل لكون ما اتخذوه من الآلهة مخلوقات فكان ما تقدم مهيئا للتعجيب من اتخاذ المشركين آلهة دون ذلك الإله المنعوت بصفات الكمال والجلال .
فالخبر غير مقصود به الإفادة بل هو للتعجيب من حالهم كيف قابلوا نعمة إنزال الفرقان بالجحد والطغيان ، وكيف أشركوا بالذي تلك صفاته آلهة أخرى صفاتهم على الضد من صفات من أشركوهم به ، وإلا فإن اتخاذ المشركين آلهة أمر معلوم لهم وللمؤمنين فلا يقصد إفادتهم لحكم الخبر .
وبين قوله : ولم يتخذ ولدا وقوله واتخذوا من دونه آلهة محسن الطباق .
وضمير ( اتخذوا ) عائد إلى المشركين ولم يسبق لهم ذكر في الكلام وإنما [ ص: 320 ] هم معروفون في مثل هذا المقام وخاصة من قوله : ولم يكن له شريك في الملك .
وجملة ( لا يخلقون شيئا ) مقابلة جملة ( الذي له ملك السماوات والأرض ) . وجملة ( وهم يخلقون ) مقابلة جملة ( ولم يتخذ ولدا ) ; لأن ولد الخالق يجب أن يكون متولدا منه فلا يكون مخلوقا .
وجملة ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا مقابلة جملة ولم يكن له شريك في الملك ; لأن الشركة في الملك تقتضي الشركة في التصرف .
وضمير ( لأنفسهم ) يجوز أن يعود إلى ( آلهة ) أي لا تقدر الأصنام ونحوها على ضر أنفسهم ولا على نفعهم . ويجوز أن يعود إلى ما عاد إليه ضمير ( واتخذوا ) أي لا تقدر الأصنام على نفع الذين عبدوهم ولا على ضرهم .
واعلم أن ( ضرا ولا نفعا ) هنا جرى مجرى المثل لقصد الإحاطة بالأحوال ، فكأنه قيل : لا يملكون التصرف بحال من الأحوال . وهذا نظير أن يقال : شرقا وغربا ، وليلا ونهارا . وبذلك يندفع ما يشكل في بادئ الرأي من وجه نفي قدرتهم على إضرار أنفسهم بأنه لا تتعلق إرادة أحد بضر نفسه ، وبذلك أيضا لا يتطلب وجه لتقديم الضر على النفع; لأن المقام يقتضي التسوية في تقديم أحد الأمرين ، فالمتكلم مخير في ذلك ، والمخالفة بين الآيات في تقديم أحد الأمرين مجرد تفنن .
والمجرور في ( لأنفسهم ) متعلق بـ ( يملكون ) .
والضر - بفتح الضاد - مصدر ضره ، إذا أصابه بمكروه . وقد تقدم نظيره في قوله تعالى : قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله في سورة يونس .
وجملة ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا مقابلة جملة وخلق كل شيء فقدره تقديرا ; لأن أعظم مظاهر تقدير الخلق هو مظهر الحياة والموت ، وذلك من المشاهدات . وأما قوله : ( ولا نشورا ) فهو تكميل لقرع المشركين نفاة البعث ; لأن نفي أن يكون الآلهة يملكون نشورا يقتضي إثبات حقيقة النشور في نفس الأمر ; إذ الأكثر في كلام العرب أن نفي الشيء [ ص: 321 ] يقتضي تحقيق ماهيته . وأما نحو قول امرئ القيس :
على لاحب لا يهتدى بمناره
يريد لا منار فيه . وقول : ابن أحمرلا تفزع الأرنب أهوالـهـا ولا ترى الضب بها ينجحر
أراد : إنها لا أرنب فيها ولا ضب . فهو من قبيل التمليح .
ذكر في هذه الآية من أقوالهم المقابلة للجمل الموصوف بها الله تعالى اهتماما بإبطال كفرهم المتعلق بصفات الله ؛ لأن ذلك أصل الكفر ومادته .
واعلم أن معنى ( وهم يخلقون ) وهم يصنعون ، أي يصنعهم الصانعون ؛ لأن أصنامهم كلها حجارة منحوتة فقد قومتها الصنعة ، فأطلق الخلق على التشكيل والنحت من فعل الناس ، وإن كان الخلق شاع في الإيجاد بعد العدم ؛ إما اعتبارا بأصل مادة الخلق وهو تقدير مقدار الجلد قبل فريه كما قال زهير :
ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ض الناس يخلـق ثـم لا يفـري
فأطلق الخلق على النحت ؛ إما على سبيل المجاز المرسل ، وإما مشاكلة لقوله : ( لا يخلقون شيئا ) .
والملك في قوله ( لا يملكون ) مستعمل في معنى القدرة والاستطاعة كما تقدم في قوله تعالى : ( قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم ) في سورة العقود ، وقوله فيها : ( قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا ) ، أي : من لا يقدر على ضركم ولا نفعكم . فقوله هنا ( لأنفسهم ) متعلق بـ ( يملكون ) ، واللام فيه لام التعليل ، أي لا يملكون لأجل أنفسهم ، أي : لفائدتها .
ثم إن المراد بـ ( أنفسهم ) يجوز أن يكون الجمع فيه باعتبار التوزيع على الآحاد المفادة بضمير ( يملكون ) أي لا يملك كل واحد لنفسه ضرا ولا نفعا ، ويكون المراد بالضر دفعه على تقدير مضاف دل عليه المقام ؛ لأن [ ص: 322 ] الشخص لا يتعلق غرضه بضر نفسه حتى يقرع بأنه عاجز عن ضر نفسه .
وتنكير ( موتا - وحياة ) في سياق النفي للعموم ، أي موت أحد من الناس ولا حياته .
والنشور : الإحياء بعد الموت . وأصله نشر الشيء المطوي .