وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا
انتقال من ذكر كفرهم في أفعالهم إلى ذكر كفرهم بأقوالهم الباطلة .
والإظهار هنا لإفادة أن مضمون الصلة هو علة قولهم هذا ، أي ما جرأهم على هذا البهتان إلا إشراكهم وتصلبهم فيه ، وليس ذلك لشبهة تبعثهم على هذه المقالة لانتفاء شبهة ذلك ، بخلاف ما حكي آنفا من كفرهم بالله فإنهم تلقوه من آبائهم ، فالوصف الذي أجري عليهم هنا مناسب لمقالتهم ؛ لأنها أصل كفرهم .
وهذه الجملة مقابلة جملة ( تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ) فهي المقصود من افتتاح الكلام كما آذنت بذلك فاتحة السورة . وإنما أخرت هذه الجملة التي تقابل الجملة الأولى مع أن مقتضى ظاهر المقابلة أن تذكر هذه الجملة قبل جملة ( واتخذوا من دونه آلهة ) اهتماما بإبطال الكفر المتعلق بصفات الله كما تقدم آنفا .
والقصر المشتمل عليه كلامهم المستفاد من ( إن ) النافية و ( إلا ) قصر قلب ؛ زعموا به رد دعوى أن القرآن منزل من عند الله .
وممن قال هذه المقابلة النضر بن الحارث ، ، وعبد الله بن أمية ، ، ونوفل بن خويلد . فإسناد هذا القول إلى جميع الكفار ؛ لأنه واقع بين ظهرانيهم وكلهم يتناقلونه . وهذه طريقة مألوفة في نسبة أمر إلى القبيلة كما يقال : بنو أسد قتلوا حجرا .
[ ص: 323 ] واسم الإشارة إلى القرآن حكاية لقولهم حين يسمعون آيات القرآن .
والضمير المرفوع في ( افتراه ) عائد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم المعلوم من قوله ( على عبده ) .
والإفك : الكذب . وتقدم عند قوله تعالى : ( إن الذين جاءوا بالإفك ) في سورة النور . والافتراء : اختلاق الأخبار ، أي : ابتكارها وهو الكذب عن عمد ، وتقدم في قوله : ( ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب ) في سورة العقود .
( وأعانه عليه ) أي على ما يقوله من القرآن قوم آخرون لقنوه بعض ما يقوله . وأرادوا بالقوم الآخرين اليهود . روي هذا التفسير عن مجاهد وعن : أشاروا إلى عبيد أربعة كانوا للعرب من الفرس وهم : ابن عباس عداس مولى حويطب بن عبد العزى ، ويسار أبو فكيهة الرومي مولى العلاء بن الحضرمي ، وفي سيرة ابن هشام أنه مولى صفوان بن أمية بن محرث ، ، وجبر مولى عامر . وكان هؤلاء من موالي قريش بمكة ممن دانوا بالنصرانية ، وكانوا يعرفون شيئا من التوراة والإنجيل ، ثم أسلموا ، وقد مر ذلك في سورة النحل ، فزعم المشركون أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتردد إلى هؤلاء سرا ويستمد منهم أخبار ما في التوراة والإنجيل .
والقصر المستفاد من قوله : ( إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون ) متسلط على كلتا الجملتين ، أي لا يخلو هذا القرآن من مجموع الأمرين ، هما : أن يكون افترى بعضه من نفسه ، وأعانه قوم على بعضه .
وفرع على حكاية قولهم هذا ظهور أنهم ارتكبوا بقولهم ظلما وزورا ؛ لأنهم حين قالوا ذلك ظهر أن قولهم زور وظلم ؛ لأنه اختلاق واعتداء .
و ( جاءوا ) مستعمل في معنى ( عملوا ) وهو مجاز في العناية بالعمل والقصد إليه ؛ لأن من اهتم بتحصيل شيء مشى إليه ، وبهذا الاستعمال صح تعديته إلى مفعول كما في هذه الآية .
والظلم : الاعتداء بغير حق بقول أو فعل ، قال تعالى : ( قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ) [ ص: 324 ] وتقدم في قوله : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله ) في سورة البقرة . والظلم الذي أتوه هو نسبتهم الرسول إلى الاختلاق ، فإنه اعتداء على حقه الذي هو الصدق .
والزور : الكذب ، وأحسن ما قيل في الزور : إنه الكذب المحسن المموه بحيث يشتبه بالصدق .
وكون قولهم ذلك كذبا ظاهر لمخالفته الواقع فالقرآن ليس فيه شيء من الإفك ، والذين زعموهم معينين عليه لا يستطيع واحد منهم أن يأتي بكلام عربي بالغ غاية البلاغة ومرتق إلى حد الإعجاز ، وإذا كان لبعضهم معرفة ببعض أخبار الرسل فما هي إلا معرفة ضئيلة غير محققة كشأن معرفة العامة والدهماء .