[ ص: 46 ] المقدمة الخامسة في أسباب النزول
أولع كثير من المفسرين بتطلب وهي حوادث يروى أن آيات من القرآن نزلت لأجلها لبيان حكمها أو لحكايتها أو إنكارها أو نحو ذلك ، وأغربوا في ذلك وأكثروا حتى كاد بعضهم أن يوهم الناس أن كل آية من القرآن نزلت على سبب ، وحتى رفعوا الثقة بما ذكروا . بيد أنا نجد في بعض آي القرآن إشارة إلى الأسباب التي دعت إلى نزولها ونجد لبعض الآي أسبابا ثبتت بالنقل دون احتمال أن يكون ذلك رأي الناقل ، فكان أمر أسباب نزول القرآن دائرا بين القصد والإسراف ، وكان في غض النظر عنه وإرسال حبله على غاربه خطر عظيم في فهم القرآن . أسباب نزول آي القرآن
فذلك الذي دعاني إلى خوض هذا الغرض في مقدمات التفسير لظهور شدة الحاجة إلى تمحيصه في أثناء التفسير ، وللاستغناء عن إعادة الكلام عليه عند عروض تلك المسائل ، غير مدخر ما أراه في ذلك رأيا يجمع شتاتها . وأنا عاذر المتقدمين الذين ألفوا في أسباب النزول فاستكثروا منها ، بأن كل من يتصدى لتأليف كتاب في موضوع غير مشبع تمتلكه محبة التوسع فيه فلا ينفك يستزيد من ملتقطاته ليذكي قبسه ، ويمد نفسه ، فيرضى بما يجد رضى الصب بالوعد ، ويقول زدني من حديثك يا سعد غير هياب لعاذل ، ولا متطلب معذرة عاذر ، وكذلك شأن الولع إذا امتلك القلب ولكني لا أعذر أساطين المفسرين الذين تلقفوا الروايات الضعيفة فأثبتوها في كتبهم ولم ينبهوا على مراتبها قوة وضعفا ، حتى أوهموا كثيرا من الناس أن القرآن لا تنزل آياته إلا لأجل حوادث تدعو إليها ، وبئس هذا الوهم ؛ فإن القرآن جاء هاديا إلى ما به صلاح الأمة في أصناف الصلاح فلا يتوقف نزوله على حدوث الحوادث الداعية إلى تشريع الأحكام .
نعم إن العلماء توجسوا منها فقالوا إن سبب النزول لا يخصص ، إلا طائفة شاذة ادعت التخصيص بها ، ولو أن أسباب النزول كانت كلها متعلقة بآيات عامة لما دخل من ذلك ضر على عمومها إذ قد أراحنا أئمة الأصول حين قالوا : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ولكن أسبابا كثيرة رام رواتها تعيين مراد من تخصيص عام أو تقييد مطلق أو إلجاء إلى محمل ، فتلك هي التي قد تقف عرضة أمام معاني التفسير قبل التنبيه على ضعفها أو تأويلها .
[ ص: 47 ] وقد قال الواحدي في أول كتابه في أسباب النزول : أما اليوم فكل أحد يخترع للآية سببا ، ويختلق إفكا وكذبا ، ملقيا زمامه إلى الجهالة ، غير مفكر في الوعيد وقال لا يحل القول في أسباب نزول الكتاب إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل اهـ . إن من أسباب النزول ما ليس المفسر بغنى عن علمه لأن فيها بيان مجمل أو إيضاح خفي وموجز ، ومنها ما يكون وحده تفسيرا . ومنها ما يدل المفسر على طلب الأدلة التي بها تأويل الآية أو نحو ذلك . ففي صحيح البخاري أرسل إلى مروان بن الحكم يقول " لئن كان كل امرئ فرح بما أتى ، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون " يشير إلى قوله تعالى ابن عباس لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم فأجاب قائلا : إنما دعا النبيء اليهود فسألهم على شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره ، فأروه أنهم قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ، ثم قرأ ابن عباس ابن عباس وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون لا تحسبن الذين يفرحون الآيات . وفي الموطأ عن أن عن أبيه أنه قال هشام بن عروة بن الزبير لعائشة أم المؤمنين وأنا يومئذ حديث السن : أرأيت قول الله تعالى إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما فما على الرجل شيء ألا يطوف بهما ، قالت عائشة : كلا ، لو كان كما تقول لكانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما ، إنما نزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلون لمناة ، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله عن ذلك فأنزل الله تعالى إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما اهـ . قلت
ومنها ما ينبه المفسر إلى إدراك خصوصيات بلاغية تتبع مقتضى المقامات فإن من أسباب النزول ما يعين على تصوير مقام الكلام كما سننبهك إليه في أثناء المقدمة العاشرة .
وقد تصفحت فوجدتها خمسة أقسام : أسباب النزول التي صحت أسانيدها
الأول : هو المقصود من الآية يتوقف فهم المراد منها على علمه ، فلا بد من البحث عنه للمفسر ، وهذا منه تفسير مبهمات القرآن ، مثل قوله تعالى قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها [ ص: 48 ] ونحو يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا ومثل بعض الآيات التي فيها ومن الناس
والثاني : هو حوادث تسببت عليها تشريعات أحكام ، وصور تلك الحوادث لا تبين مجملا ولا تخالف مدلول الآية بوجه تخصيص أو تعميم أو تقييد ، ولكنها إذا ذكرت أمثالها وجدت مساوية لمدلولات الآيات النازلة عند حدوثها ، مثل حديث عويمر العجلاني الذي نزلت عنه آية اللعان ، ومثل حديث الذي نزلت عنه آية كعب بن عجرة فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام الآية فقد قال : هي لي خاصة ولكم عامة ، ومثل كعب بن عجرة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم : يغزو الرجال ولا نغزو ، فنزل قوله تعالى أم سلمة ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض الآية . وهذا القسم لا يفيد البحث فيه إلا زيادة تفهم في معنى الآية وتمثيلا لحكمها ، ولا يخشى توهم تخصيص الحكم بتلك الحادثة ، إذ قد اتفق العلماء أو كادوا على أن سبب النزول في مثل هذا لا يخصص ، واتفقوا على أن أصل التشريع أن لا يكون خاصا . قول
والثالث : هو حوادث تكثر أمثالها ، تختص بشخص واحد ، فنزلت الآية لإعلانها وبيان أحكامها وزجر من يرتكبها ، فكثيرا ما تجد المفسرين وغيرهم يقولون نزلت في كذا وكذا ، وهم يريدون أن من الأحوال التي تشير إليها تلك الآية تلك الحالة الخاصة فكأنهم يريدون التمثيل .
ففي كتاب الأيمان من صحيح في باب قول الله تعالى البخاري إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أن قال : عبد الله بن مسعود إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا الآية فدخل فقال ما حدثكم الأشعث بن قيس أبو عبد الرحمن ؟ فقالوا كذا وكذا ، قال في أنزلت ، لي بئر في أرض ابن عم لي إلخ ، قال رسول الله " من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان " فأنزل الله تصديق ذلك جعل الآية عامة لأنه جعلها تصديقا لحديث عام ؟ فابن مسعود ظنها خاصة به إذ قال في أنزلت بصيغة الحصر . ومثل الآيات النازلة في المنافقين في سورة براءة المفتتحة بقوله تعالى ومنهم - ومنهم ، ولذلك قال والأشعث بن قيس : كنا نسمي سورة التوبة سورة الفاضحة . ومثل قوله تعالى ابن عباس ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم فلا حاجة لبيان أنها نزلت لما أظهر بعض اليهود [ ص: 49 ] مودة المؤمنين . وهذا القسم قد أكثر من ذكره أهل القصص وبعض المفسرين ولا فائدة في ذكره ، على أن ذكره قد يوهم القاصرين قصر الآية على تلك الحادثة لعدم ظهور العموم من ألفاظ تلك الآيات .
والرابع : هو حوادث حدثت وفي القرآن آيات تناسب معانيها سابقة أو لاحقة فيقع في عبارات بعض السلف ما يوهم أن تلك الحوادث هي المقصود من تلك الآيات ، مع أن المراد أنها مما يدخل في معنى الآية ، ويدل لهذا النوع وجود اختلاف كثير بين الصحابة في كثير من أسباب النزول كما هو مبسوط في المسألة الخامسة من بحث أسباب النزول من الإتقان فارجعوا إليه ففيه أمثلة كثيرة .
وفي صحيح في سورة النساء أن البخاري قرأ قوله تعالى ابن عباس ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا بألف بعد لام السلام ، وقال : كان رجل في غنيمة له ، تصغير غنم ، فلحقه المسلمون فقال السلام عليكم فقتلوه أي ظنوه مشركا يريد أن يتقي منهم بالسلام وأخذوا غنيمته ، فأنزل الله في ذلك ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام الآية . فالقصة لا بد أن تكون قد وقعت لأن رواها لكن الآية ليست نازلة فيها بخصوصها ولكن نزلت في أحكام الجهاد بدليل ما قبلها وما بعدها ، فإن قبلها ابن عباس يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا وبعدها فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل وفي تفسير تلك السورة من صحيح بعد أن ذكر نزاع البخاري الزبير والأنصاري في ماء شراج الحرة قال الزبير : فما أحسب هذه الآيات إلا نزلت في ذلك فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم الآية قال السيوطي في الإتقان عن الزركشي قد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال نزلت هذه الآية في كذا ، فإنه يريد بذلك أنها تتضمن هذا الحكم لا أن هذا كان السبب في نزولها . وفيه عن ابن تيمية : قد تنازع العلماء في قول الصحابي : نزلت هذه الآية في كذا ، هل يجري مجرى المسند أو يجري مجرى التفسير ؟ يدخله في المسند ، وأكثر أهل المسانيد لا يدخلونه فيه ، بخلاف ما إذا ذكر سببا نزلت عقبه فإنهم كلهم يدخلونه في المسند . فالبخاري
والخامس قسم يبين مجملات ، ويدفع متشابهات مثل قوله تعالى ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون فإذا ظن أحد أن ( من ) للشرط أشكل عليه كيف يكون الجور في الحكم كفرا ، ثم إذا علم أن سبب النزول هم النصارى علم أن ( من ) موصولة وعلم أن الذين [ ص: 50 ] تركوا الحكم بالإنجيل لا يتعجب منهم أن يكفروا بمحمد . وكذلك حديث قال عبد الله بن مسعود الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : أينا لم يلبس إيمانه بظلم . ظنوا أن الظلم هو المعصية . فقال رسول الله : إنه ليس بذلك ؟ ألا تسمع لقول لقمان لابنه إن الشرك لظلم عظيم . ومن هذا القسم ما لا يبين مجملا ولا يؤول متشابها ولكنه يبين وجه تناسب الآي بعضها مع بعض كما في قوله تعالى ، في سورة النساء لما نزل قوله تعالى وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء الآية ، فقد تخفى الملازمة بين الشرط وجزائه فيبينها ما في الصحيح ، عن عائشة أن سألها عنها فقالت : هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله فيريد أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن في الصداق ، فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن . عروة بن الزبير
هذا وإن القرآن كتاب جاء لهدي أمة والتشريع لها ، وهذا الهدي قد يكون واردا قبل الحاجة ، وقد يكون مخاطبا به قوم على وجه الزجر أو الثناء أو غيرهما ، وقد يكون مخاطبا به جميع من يصلح لخطابه ، وهو في جميع ذلك قد جاء بكليات تشريعية وتهذيبية ، والحكمة في ذلك أن يكون وعي الأمة لدينها سهلا عليها ، وليمكن تواتر الدين ، وليكون لعلماء الأمة مزية الاستنباط ، وإلا فإن الله قادر أن يجعل القرآن أضعاف هذا المنزل وأن يطيل عمر النبي صلى الله عليه وسلم للتشريع أكثر مما أطال عمر إبراهيم وموسى ، ولذلك قال تعالى وأتممت عليكم نعمتي فكما لا يجوز حمل كلماته على خصوصيات جزئية لأن ذلك يبطل مراد الله ، كذلك لا يجوز تعميم ما قصد منه الخصوص ولا إطلاق ما قصد منه التقييد ; لأن ذلك قد يفضي إلى التخليط في المراد أو إلى إبطاله من أصله ، وقد اغتر بعض الفرق بذلك . قال في ابن سيرين الخوارج : إنهم عمدوا إلى آيات الوعيد النازلة في المشركين فوضعوها على المسلمين فجاءوا ببدعة القول بالتكفير بالذنب ، وقد قال الحرورية لعلي رضي الله عنه يوم التحكيم إن الحكم إلا لله فقال علي : كلمة حق أريد بها باطل وفسرها في خطبة له في نهج البلاغة .
وثمة فائدة أخرى عظيمة لأسباب النزول وهي أن في نزول القرآن عند حدوث حوادث دلالة على إعجازه من ناحية الارتجال ، وهي إحدى طريقتين لبلغاء العرب في أقوالهم ، فنزوله على حوادث يقطع دعوى من ادعوا أنه أساطير الأولين .