أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا
عطف على جملة إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون لتسلية النبيء - صلى الله عليه وسلم - على ما لقيه من قومه . وهذا تذييل لما تقدم من مشابهة حال قريش مع النبيء - صلى الله عليه وسلم - بحال قوم نوح وقوم موسى وقوم يونس . وهذه الجملة كالمقدمة الكلية للجملة التي بعدها ، وهي جملة أفأنت تكره المفرعة على الجملة الأولى ، وهي المقصود من التسلية .
والناس : العرب ، أو أهل مكة منهم ، وذلك إيماء إلى أنهم المقصود من سوق القصص الماضية كما بيناه عند قوله - تعالى : واتل عليهم نبأ نوح
والتأكيد بـ كلهم للتنصيص على العموم المستفاد من من الموصولة فإنها للعموم ، والتأكيد بـ جميعا لزيادة رفع احتمال العموم العرفي دون الحقيقي .
والمعنى : لو شاء الله لجعل مدارك الناس متساوية منساقة إلى الخير ، فكانوا سواء في قبول الهدى والنظر الصحيح .
[ ص: 293 ] ولو تقتضي انتفاء جوابها لانتفاء شرطها . فالمعنى : لكنه لم يشأ ذلك ، فاقتضت حكمته أن خلق عقول الناس متأثرة ومنفعلة بمؤثرات التفاوت في إدراك الحقائق فلم يتواطئوا على الإيمان ، وما كان لنفس أن تؤمن إلا إذا استكملت خلقة عقلها ما يهيئها للنظر الصحيح وحسن الوعي لدعوة الخير ومغالبة الهدى في الاعتراف بالحق .
وجملة أفأنت تكره الناس إلخ مفرعة على التي قبلها ; لأنه لما تقرر أن الله لم تتعلق مشيئته باتفاق الناس على الإيمان بالله ؛ تفرع على ذلك إنكار ما هو كالمحاولة لتحصيل إيمانهم جميعا .
والاستفهام في أفأنت تكره الناس إنكاري ، فنزل النبيء - صلى الله عليه وسلم - لحرصه على إيمان أهل مكة وحثيث سعيه لذلك بكل وسيلة صالحة منزلة من يحاول إكراههم على الإيمان حتى ترتب على ذلك التنزيل إنكاره عليه .
ولأجل كون هذا الحرص الشديد هو محل التنزيل ومصب الإنكار وقع تقديم المسند إليه على المسند الفعلي ، فقيل أفأنت تكره الناس دون أن يقال : أفتكره الناس ، أو أفأنت مكره الناس ; لأن تقديم المسند إليه على مثل هذا المسند يفيد تقوي الحكم فيفيد تقوية صدور الإكراه من النبيء - صلى الله عليه وسلم - لتكون تلك التقوية محل الإنكار . وهذا تعريض بالثناء على النبيء ومعذرة له على عدم استجابتهم إياه ، ومن بلغ المجهود حق له العذر .
وليس تقديم المسند إليه هنا مفيدا للتخصيص ، أي القصر ; لأن المقام غير صالح لاعتبار القصر ، إذ مجرد تنزيل النبيء - صلى الله عليه وسلم - منزلة من يستطيع إكراه الناس على الإيمان كاف في الإشارة إلى تشبيه حرصه على إيمانهم بحرص من يستطيع إكراههم عليه . فما وقع في الكشاف من الإشارة إلى معنى الاختصاص غير وجيه ; لأن قرينة التقوي واضحة كما أشار إليه السكاكي .
والإكراه : الإلجاء والقسر .