448 - قيس بن الملوح بن مزاحم ، وهو مجنون ليلى:
وقيل: قيس بن معاذ ، وقيل: اسمه البحتري بن الجعدي ، وقيل: هو الأقرع بن [ ص: 102 ] معاذ ، وهو أحد بني جعدة بن كعب بن عامر بن صعصعة ، وقيل: هو من بني عقيل بن كعب بن سعد . وقد أنكر قوم وجوده وليس بشيء؛ لأن العمل على المثبت .
وأما ليلى فهي بنت مهدي ، وقيل: بنت ورد من بني ربيعة . وتكنى أم مالك ، وكانت من أجمل النساء وأظرفهن وأحسنهن جسما وعقلا وأدبا وشكلا .
أخبرنا محمد بن ناصر ، قال: أخبرنا أحمد بن محمد البخاري ، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري ، قال أخبرنا قال: حدثنا ابن حيويه ، محمد بن خلف ، قال: أخبرني أبو محمد البلخي ، قال: أخبرني عبد العزيز ، عن أبيه ، عن ابن دأب ، قال: حدثني رجل من بني عامر بن صعصعة يقال له: رباح ، قال: كان في بني عامر جارية من أجمل النساء ، لها عقل وأدب يقال لها ليلى بنت مهدي ، فبلغ المجنون خبرها وما هي عليه من الجمال والعقل ، وكان صبا بمحادثة النساء ، فعمد إلى أحسن ثيابه فلبسها وتهيأ ، فلما جلس إليها وتحدث بين يديها أعجبته ووقعت بقلبه ، فظل يومه ذلك يحدثها وتحدثه حتى أمسى ، فانصرف إلى أهله بأطول ليلة حتى إذا أصبح مضى إليها فلم يزل عندها حتى أمسى ثم انصرف ، فبات بأطول من ليلته الأولى ، وجهد أن يغمض فلم يقدر على ذلك ، فأنشأ يقول:
نهاري نهار الناس حتى إذا بدا لي الليل هزتني إليك المضاجع أقضي نهاري بالحديث وبالمنى
ويجمعني والهم بالليل جامع
كلانا مظهر للناس بغضا وكل عند صاحبه مكين
أظن هواها تاركي بمضلة من الأرض لا مال لدي ولا أهل
ولا أحد أفضي إليه وصيتي ولا صاحب إلا المطية والرحل
[محا حبها حب الألى كن قبلها وحلت مكانا لم يكن حل من قبل]
أخبرنا ابن نصر ، قال: أخبرنا أحمد بن محمد البخاري ، قال: أخبرنا الجوهري ، قال: أخبرنا قال: حدثنا ابن حيويه ، محمد بن خلف ، قال: قال العمري ، عن لقيط بن بكير المحاربي: إن المجنون علق ليلى علاقة الصبي ، وذلك أنهما كانا صغيرين يرعيان أغناما لقومهما ، فتعلق كل واحد منهما صاحبه ، إلا أن المجنون كان أكبر منها [فلم يزالا على ذلك حتى كبرا] ، فلما علم بأمرهما حجبت ليلى عنه فزال عقله ، وفي ذلك يقول:
تعلقت ليلى وهي ذات ذؤابة ولم يبد للأتراب من ثديها حجم
صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم
إني لأجلس في النادي أحدثهم فأستفيق وقد غالتني الغول
يهوي بقلبي حديث النفس نحوكم حتى يقول جليسي أنت مخبول
و[قد] روينا أن قوم ليلى شكوا منه إلى السلطان فأهدر دمه ، فقال: الموت أروح لي ، فعلموا أنه لا يزال يطلب غرتهم ، فرحلوا ، فجاء فأشرف فرأى ديارهم بلاقع ، فقصد منزل ليلى فألصق صدره به وجعل يمرغ خديه على ترابه ، ويقول:
أيا حرجات الحي حيث تحملوا بذي سلم لا جادكن ربيع
وخيماتك اللاتي بمنعرج اللوى بلين بلى لم تبلهن ربوع
ندمت على ما كان مني ندامة كما يندم المغبون حين يبيع
[ ص: 105 ]
وكيف ترى ليلى تقول رجال الحي تطمع أن ترى . . .
أخبرنا قال: أخبرنا ابن ناصر ، أحمد بن محمد البخاري ، قال: أخبرنا الجوهري ، قال: أخبرنا قال: حدثنا ابن حيويه ، محمد بن خلف ، قال: قال لما ظهر من المجنون ما ظهر ، ورأى قومه ما ابتلي به اجتمعوا إلى أبيه وقالوا: يا هذا ، قد ترى ما ابتلي ابنك به ، فلو خرجت به إلى أبو عمرو الشيباني: مكة فعاذ ببيت الله ، وزار قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودعا الله عز وجل رجونا أن يرجع عقله ويعافيه الله عز وجل ، فخرج أبوه حتى أتى إلى مكة ، فجعل يطوف [به] ويدعو له بالعافية وهو يقول:
دعا المجرمون الله يستغفرونه بمكة وهنا أن تمحى ذنوبها
فناديت أن يا رب أول سولتي لنفسي ليلى ثم أنت حبيبها
[فإن أعط ليلى في حياتي لا يتب إلى الله خلق توبة لا أتوبها]
وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى فهيج أحزان الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما أطار بليلى طائرا كان في صدري
ألا حبذا نجد وطيب ترابه وأرواحه إن كان نجد على العهد
فلما ورد الكتاب على عامله بعث إلى قيس وأبيه وأهل بيته ، فجمعهم وقرأ عليهم كتاب مروان ، وقال لقيس: اتق الله في نفسك لا تذهب دمك هدرا ، فانصرف قيس وهو يقول:
ألا حجبت ليلى وآلى أميرها علي يمينا جاهدا لا أزورها
وواعدني فيها رجال أبوهم أبي وأبوها خشنت لي صدورها
على غير شيء غير أني أحبها وأن فؤادي عند ليلى أسيرها
فلما يئس منها وعلم أن لا سبيل إليها صار شبيها بالتائه العقل ، وأحب الخلوة وحديث النفس ، وتزايد الأمر به حتى ذهب عقله ، ولعب بالحصى والتراب ، ولم يكن يعرف شيئا إلا ذكرها ، وقول الشعر فيها ، وبلغها ما صار إليه قيس فجزعت أيضا لفراقه ، وضنيت ضنى شديدا .
وقد روينا عن يونس النحوي: أن أم قيس سألت ليلى فحضرت عنده ليلا ، وقالت: إن أمك تزعم أنك جننت على رأسي ، فقال:
قالت جننت على رأسي فقلت لها الحب أعظم مما بالمجانين
الحب ليس يفيق الدهر صاحبه وإنما يصرع المجنون في الحين
وقد روينا أن أبا المجنون قيده ، فجعل يأكل لحم ذراعيه ، ويضرب بنفسه الأرض ، فأطلقه يدور في الفلاة عريانا .
ولما زوجت ليلى ، وقيل: غدا ترحل ، قال المجنون ينشد:
كأن القلب ليلة قيل يغدى بليلى العامرية أو يراح
قطاة عزها شرك فباتت تجاذبه وقد علق الجناح
بربك هل ضممت إليك ليلى قبيل الصبح أو قبلت فاها
وهل رفت عليك قرون ليلى رفيف الأقحوانة في نداها
[ ص: 108 ]
وكانت له داية يأنس بها ، وكانت تخرج إلى الصحراء فتحمل له رغيفا وماء ، فربما أكله وربما تركه ، حتى جاءت يوما وهو ملقى بين الأحجار ميتا ، فاحتملوه إلى الحي ، فغسلوه ودفنوه ، ولم يبق في بني جعدة ولا في بني الحريش امرأة إلا خرجت حاسرة صارخة عليه تندبه ، واجتمع فتيان الحي يبكون عليه أشد بكاء ، وينشجون أشد نشيج ، وحضرهم حي ليلى معزين وأبوها معهم ، وكان أشد القوم جزعا وبكاء عليه ، وجعل يقول: ما علمت أن الأمر يبلغ كل هذا ، ولكني امرؤ عربي أخاف من العار ، وقبح الأحدوثة ، فزوجتها وخرجت عن يدي ، ولو علمت أن أمره يجري على هذا ما أخرجتها عن يده ، فما رئي يوما كان أكثر باكيا منه .
وبينما هم يقلبونه وجدوا خرقة فيها مكتوب:
ألا أيها الشيخ الذي ما بنا يرضى شقيت ولا هنيت من عيشك الخفضا
شقيت كما أشقيتني وتركتني أهيم مع الهلاك لا أطعم الغمضا
كأن فؤادي في مخاليب طائر إذا ذكرت ليلى يشد بها قبضا
كأن فجاج الأرض حلقة خاتم علي فما تزداد طولا ولا عرضا
وشغلت عن فهم الحديث سوى ما كان منك فإنه شغلي
وأديم لحظ محدثي ليرى أن قد فهمت وعندكم عقلي
عجبت لعروة العذري أمسى أحاديثا لقوم بعد قوم
[ ص: 109 ]
وعروة مات موتا مستريحا وها أنا ذا أموت بكل يوم
[ ص: 110 ]