ولي القضاء والشرطة لمسلمة بن مخلد ، روى عنه أبو قتيل المغافري .
وتوفي في هذه السنة .
[ ص: 80 ]
441 - قيس بن ذريح بن الحباب بن شبة بن حذافة:
كان رضيع الحسين بن علي بن أبي طالب ، أرضعته أم قيس ، وكان منزل قومه [في] ظاهر المدينة ، وكان هو وأبوه من حاضرة المدينة .
وقيل: كان منزله بسرف .
فمر قيس ببعض حاجته بخيام بني كعب من خزاعة والحي خلوف ، فوقف على خيمة للبنى بنت الحباب الكعبية ، فاستسقى الماء ، فخرجت إليه فسقته ، وكانت امرأة مديدة القامة ، شهلة حلوة المنظر والكلام ، فلما رآها وقعت في نفسه وشرب الماء ، فقالت له: انزل فتبرد عندنا ، فنزل [بهم] ، وجاء أبوها فنحر له وأكرمه . فانصرف قيس وفي نفسه من لبنى حر لا يطفأ ، فجعل يقول الشعر فيها حتى شاع وروي .
ثم أتاها يوما آخر وقد اشتد وجده بها ، فسلم فظهرت له وردت سلامه ولحقت به ، فشكى إليها ما يجد من حبها ، فبكت وشكت إليه مثل ذلك ، وعرف كل واحد منهما ما له عند صاحبه ، فانصرف إلى أبيه وأعلمه حاله وسأله أن يزوجه إياها ، فأبى عليه ، وقال: يا بني عليك بإحدى بنات عمك فهن أحق بك ، وكان ذريح كثير المال موسرا ، [ ص: 81 ] فأحب ألا يزوج ابنه إلى غريبة ، فانصرف قيس وقد ساءه ما خاطبه به أبوه ، فأتى أمه فشكى إليها واستعان بها على أبيه ، فلم يجد عندها ما يحب . فأتى رضي الله عنهما الحسين بن علي وابن أبي عتيق ، وكان صديقه ، فشكى إليهما ما به وما رد عليه أبواه ، فقال له الحسين: أنا أكفيك ، فمشى معه إلى أبي لبنى ، فلما بصر به أعظمه ووثب إليه ، وقال: يا ابن رسول الله ، ما حاجتك؟ قال: إن الذي جئت فيه يوجب قصدك ، قد جئتك خاطبا ابنتك لبنى لقيس بن ذريح ، فقال: يا ابن رسول الله ، ما كنا لنعصي لك أمرا ، وما بنا عن الفتى رغبة ، ولكن أحب الأمرين إلينا أن يخطبها ذريح أبوه عليه ، وأن يكون ذلك عن أمره ، فإنا نخاف إن لم يسمح أبوه في هذا أن يكون عارا علينا ، فأتى الحسين ذريحا وقومه مجتمعون ، فقاموا إليه إعظاما وقالوا له مثل الخزاعيين ، فقال لذريح: أقسمت عليك إلا ما خطبت لبنى على قيس ، فقال: السمع والطاعة لأمرك ، فخرج معه في وجوه قومه حتى أتوا حي لبنى ، فخطبها ذريح على ابنه إلى أبيها ، فزوجه إياها ، وزفت عليه ، فأقام معها مدة ، وكان أبر الناس بأمه ، فألهته لبنى وعكوفه عليها عن بعض ذلك ، فوجدت أمه وأخذت في نفسها ، وقالت: لقد شغلت هذه المرأة ابني عن بري .
ومرض قيس ، فقالت أمه لأبيه: لقد خشيت أن يموت ولم يترك خلفا وقد حرم الولد من هذه المرأة ، وأنت ذو مال فيصير مالك إلى الكلالة ، فزوجه غيرها لعل الله أن يرزقه ولدا ، وألحت عليه في ذلك ، فلما اجتمع قومه دعاه فقال: يا قيس ، إنك اعتللت [ ص: 82 ] فخفت عليك [ولا] ولد لي سواك ، وهذه المرأة ليست بولود فتزوج إحدى بنات عمك؛ لعل الله أن يرزقك ولدا تقر به عينك وأعيننا ، فقال قيس: لست متزوجا غيرها أبدا ، قال أبوه ، فتسر بالإماء ، قال: ولا أسوءها بشيء والله أبدا ، قال أبوه: فإني أقسم عليك إلا طلقتها ، فأبى وقال: الموت عندي والله أسهل من ذلك ، ولكني أخيرك خصلة من [ثلاث] خصال ، قال: وما هي؟ قال: تتزوج أنت فلعل الله أن يرزقك ولدا غيري ، قال: ما في فضلة لذلك ، قال: فدعني أترحل عنك بأهلي واصنع ما كنت صانعا لو مت في علتي هذه ، قال: ولا هذه ، قال: فأدع لبنى عندك وأرتحل عنك فلعلي أسلوها فإني ما أحب بعد أن تكون نفسي طيبة فإنها في خيالي ، قال: لا أرضى أو تطلقها ، وحلف لا يكنه سقف أبدا حتى يطلق لبنى . وكان يخرج فيقف في حر الشمس ، فيجيء قيس فيقف إلى جانبه فيظله بردائه ويصطلي هو بحر الشمس ثم يدخل إلى لبنى فيعانقها ويبكي وتبكي هي معه ، وتقول له: يا قيس ، لا تطع أباك فتهلك وتهلكني ، فيقول: ما كنت لأطيع فيك أحدا أبدا .
فيقال: إنه مكث كذلك سنة ، وقيل: عشرين سنة ، وهجره أبواه لا يكلمانه ، فطلقها ، فلما طلقها استطير عقله ، ولحقه مثل الجنون ، وجعل يبكي ، فبلغها الخبر فأرسلت إلى أبيها ليحتملها ، فأقبل أبوها بهودج وإبل ، فقال قيس: ما هذا؟ فقالوا: لبنى ترحل الليلة أو غدا ، فسقط مغشيا عليه ثم أفاق ، وجعل يقول:
وإني لمفن دمع عيني بالبكا حذار الذي قد كان أو هو كائن وقالوا غدا أو بعد ذاك بليلة
فراق حبيب لم يبن وهو بائن وما كنت أخشى أن تكون منيتي
بكفيك إلا أن ما حان حائن
يقولون لبنى فتنة كنت قبلها بخير فلا تندم عليها وطلق
[ ص: 83 ] فطاوعت أعدائي وعاصيت ناصحي وأقررت عين الشامت المتخلق
وددت وبيت الله أني عصيتهم وحملت في رضوانها كل موثق
وكلفت خوض البحر والبحر زاخر أبيت على أثباج موج مغرق
كأني أرى الناس المحبين بعدها عصارة ماء الحنظل المتفلق
فتنكر عيني بعدها كل منظر ويكره سمعي بعدها كل منطق
لقد نعق الغراب ببين لبنى فطار القلب من حذر الغراب
وقال غدا تباعد دار لبنى وتنأى بعد ود واقتراب
فقلت تعست ويحك من غراب وكان الدهر سعيك في تباب
ألا يا غراب البين هل أنت مخبري بخير كما خبرت بالنأي والشر
وقلت كذاك الدهر ما زال فاجعا صدقت وهل شيء بباق على الدهر
وما أحببت أرضكم ولكن أقبل أثر من وطئ الترابا
لقد لاقيت من كلفي بلبنى بلاء ما أسيغ له شرابا
إذا نادى المنادي باسم لبنى عييت فما أطيق له جوابا
تعلق روحي روحها قبل خلقنا ومن بعد ما كنا نطافا وفي المهد
[ ص: 84 ]
فزاد كما زدنا فأصبح ناميا وليس إذا متنا بمنصرم العهد
ولكنه باق على كل حادث وزائرنا في ظلمة القبر واللحد
إذا عبتها شبهتها البدر طالعا وحسبك من عيب لها شبه البدر
لقد فضلت لبنى على الناس مثلما على ألف شهر فضلت ليلة القدر
إذا ما مشت شبرا من الأرض أرجفت من البهر حتى ما تزيد على شبر
لها كفل يرتج منها إذا مشت وقد كغصن البان منضمر الخصر
فقال:
وفي عروة العذري إن مت أسوة وعمرو بن عجلان الذي قتلت هند
وبي مثل ما ماتا به غير أنني إلى أجل لم يأتني وقته بعد
هل الحب إلا عبرة بعد زفرة وحر على الأحشاء ليس له برد
وفيض دموع تستهل إذا بدا لنا علم من أرضكم لم يكن يبدو
إنه لغدار ولقد كنت أمتنع من التزويج فالآن أتزوج ، فزوجت ، فاشتد جزعه .
وإن أبا لبنى شخص إلى فشكى إليه ، وإنه يتعرض معاوية للبنى بعد الطلاق ، فكتب إليه بإهدار دمه ، فبعثت لبنى إليه تحذره ، فقال:
فإن يحجبوها أو يحل دون وصلها مقالة واش أو وعيد أمير
فلن يمنعوا عيني من دائم البكا ولن يذهبوا ما قد أجن ضميري
إلى الله أشكو ما ألاقي من الهوى ومن حرق تعتادني وزفير
ومن حرق للحب في باطن الحشى وليل طويل الحزن غير قصير
وكنا جميعا قبل أن يظهر الهوى بأنعم حالي غبطة وسرور
فما برح الواشون حتى بدت لهم بطون الهوى مقلوبة لظهور
لقد كنت حسب النفس لو دام وصلنا ولكنما الدنيا متاع غرور
قولي له: ما لك أشعث أغبر ، فقالت له ، فتنفس وقال: هكذا تكون حال من فارق الأحبة ، وبكى . فقالت لبنى: قولي له: حدثنا حديثك ، فلما ابتدأ يحدث كشفت [ ص: 86 ] الحجاب ، فبهت لا يتكلم ثم بكى ونهض يخرج ، فناداه زوجها: ما قصتك؟ ارجع فاقبض الثمن ، فلم يكلمه وخرج ، فقالت لبنى لزوجها: هذا والله قيس .
وقال في طريقه فيها:
أتبكي على لبنى وأنت تركتها وكنت عليها بالملا أنت أقدر
فإن تكن الدنيا بلبنى تقلبت فللدهر والدنيا بطون وأظهر
لقد كان فيها للأمانة موضع وللكف مرتاد وللعين منظر
كأني لها أرجوحة بين أحبل إذا ذكرة منها على القلب تخطر
ألا حي لبنى اليوم إن كنت غاديا وألمم بها من قبل أن لا تلاقيا
وقل إنني والراقصات إلى منى بأجبل جمع ينظرون المناديا
أصونك عن بعض الأمور مظنة وأخشى عليك الكاشحين الأعاديا
أقول إذا نفسي من الوجد أصعدت بها زفرة تعتادني هي ما هيا
وبين الحشى والنحر مني حرارة ولوعة وجد تترك القلب ساهيا
ألا ليت لبنى لم تكن خلة لنا ولم ترني لبنى ولم أدر ما هيا
خليلي ما لي قد بليت ولا أرى لبينى على الهجران إلا كما هيا
جزعت عليها لو أرى لي مجزعا وأفنيت دمع العين لو كان فانيا
[ ص: 87 ]
تمر الليالي والشهور ولا أرى ولوعي بها يزداد إلا تماديا
أنشدني ما قلت في علتك ، فقال:
أعالج من نفسي بقايا حشاشة على ظمأ والعائدات تعود
فإن ذكرت لبنى هششت لذكرها كما هش للثدي الدرور وليد
وقد اختلفوا في آخر أمر قيس . فروى قوم أن لبنى ماتت فخرج قيس في جماعة من قومه ، فوقف على قبرها ، فقال:
ماتت لبينى فموتها موتي هل تنفعن حسرتي على الفوت
وسوف أبكي بكاء مكتئب قضى حياة وجدا على ميت
[ ص: 88 ]
وروى محمد بن عبد الباقي بإسناده عن أيوب بن عباية ، قال: خرج قيس بن ذريح إلى المدينة يبيع ناقة له ، فاشتراها زوج لبنى وهو لا يعرفه ، فقال له: انطلق معي أعطك الثمن ، فمضى معه ، فلما فتح الباب إذا لبنى قد استقبلت قيسا ، فلما رآها ولى هاربا ، وخرج الرجل في إثره بالثمن ليدفعه إليه ، فقال له قيس: لا تركب لي مطيتين أبدا ، فقال: وأنت قيس بن ذريح؟ قال: نعم ، فقال له: هذه لبنى قد رأيتها قف حتى أخيرها فإن اختارتك طلقتها ، وظن القرشي أن في قلبها له موضعا وأنها لا تفعل ، قال له قيس: افعل . فدخل القرشي عليها فاختارت قيسا فطلقها ، وأقام قيس ينتظر انقضاء العدة ليتزوجها فماتت في العدة .
وروى آخرون أن ابن أبي عتيق جاء إلى الحسن رضي الله عنهما والحسين وابن جعفر وجماعة من قريش ، فقال: إن لي حاجة إلى رجل وأخشى أن يردني ، وإني أستعين بجاهكم ، فمضى بهم إلى زوج لبنى ، فلما رآهم أعظم مصيرهم إليه ، فقالوا: جئنا لحاجة لابن أبي عتيق ، فقال: هي مقضية ما كانت ، قال ابن أبي عتيق: فهب لي ولهم زوجتك لبنى وتطلقها ، قال: فأشهدكم أنها طالق ثلاثا ، فاستحيا القوم وقالوا: والله ما عرفنا أن حاجته هذه ، وعوضه الحسن رضي الله عنه عن ذلك مائة ألف درهم ، وحملها ابن أبي عتيق إليه ، فلما انقضت العدة سأل القوم أباها فزوجها منه ، فلم تزل معه حتى ماتا .
وقال قيس يمدح ابن أبي عتيق:
جزى الرحمن أفضل ما يجازي على الإحسان خيرا من صديق
فقد جربت إخواني جميعا فما ألفيت كابن أبي عتيق
سعى في جمع شملي بعد صدع ورأي حدت فيه عن الطريق
وأطفأ لوعة كانت بقلبي أغصتني حرارتها بريقي
[ ص: 89 ]