فكتب بقوله إلى يزيد ، فولى الكوفة عبيد الله بن زياد إضافة إلى البصرة ، وأمره أن يقتل مسلم بن عقيل ، فأقبل عبيد الله في وجوه أهل البصرة ، حتى قدم الكوفة متلثما ، فلا يمر بمجلس من مجالسهم فيسلم إلا قالوا : وعليك السلام يا ابن بنت رسول الله . وهم يظنونه الحسين حتى نزل القصر ، فقال عبيد الله لمولى له : هذه ثلاثة آلاف درهم ، خذها وسل عن الذي بايع أهل الكوفة ، وأعلمه أنك من حمص ، وقل له : خذ هذا المال تقوى به . فمضى فسلمه إليه ، فتحول مسلم بن عقيل حينئذ من الدار التي [ ص: 326 ] كان فيها إلى منزل هانئ بن عروة المرادي ، إلى مسلم الحسين ببيعة اثني عشر ألفا من أهل الكوفة ، ويأمره بالقدوم ، ثم دخل على وكتب عبيد الله بن زياد جماعة من وجوه أهل الكوفة ، فقال : ما بال هانئ بن عروة لم يأتني ؟ فأخبروا هانئا ، فانطلق إليه فقال : يا هانئ ، أين ؟ قال : لا أدري . فقال مسلم عبيد الله لمولاه الذي أعطاه الدراهم : اخرج . فخرج ، فلما رآه قال : أصلح الله الأمير ، والله ما دعوته إلى منزلي ، ولكنه جاء فطرح نفسه علي ، قال : ائتني به ، قال : والله لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه . فضربه [على حاجبه ] فشجه ، ثم حبسه فنادى أصحابه ، فاجتمع إليه من أهل مسلم الكوفة أربعة آلاف ، فمضى بهم إلى القصر ، فأشرف أصحاب عبيد الله على أهاليهم يعدونهم ويقولون : غدا يأتيكم جنود الشام . فتسللوا ، فما اختلط الظلام حتى بقي وحده ، فأوى إلى امرأة ، فعلم به ابنها ، وكان مسلم عبيد الله قد نادى : إنه من وجد في داره فقد برئت منه الذمة ، ومن جاء به فله ديته . فأخبر به ، فبعث عبيد الله إليه صاحب الشرطة ، ومعه عمرو بن حريث عبد الرحمن بن محمد الأشعث ، فلم يعلم حتى أحيط بالدار ، فخرج إليهم بسيفه فقاتلهم ، فأعطاه مسلم عبد الرحمن الأمان ، فأمكنه من يده ، فحملوه على بغلة ، وانتزعوا سيفه منه ، فقال : هذا أول الغدر . وبكى ، فقيل له : من يطلب مثل هذا الذي تطلب إذا نزل به مثل هذا لم يبك . فقال : والله ما أبكي على نفسي ، بل على حسين وآل حسين . ثم التفت إلى عبد الرحمن فقال : هل يستطيع أن يبعث من عندك رجلا على لساني ، يبلغ حسينا ، فإني لا أراه إلا قد خرج إليكم ، فيقول له ارجع ولا تغتر بأهل الكوفة .
فبعث رجلا ، فلقي الحسين بزبالة ، فأخبره [الخبر ] ، فقال : كل ما حم نازل . ولما جيء بمسلم إلى عبيد الله بن زياد أخبره عبد الرحمن أنه قد أمنه ، فقال : ما أنت والأمان ، إنما بعثناك لتجيء به لا لتؤمنه . فأمر به ، فأصعد إلى أعلى القصر ، فضربت عنقه ، وألقى جثته إلى الناس ، وأمر بهانئ ، فقتل في السوق ، وسحب إلى الكناسة ، فصلب هناك .
[ ص: 327 ] وقال شاعرهم في ذلك :
فإن كنت لا تدرين ما الموت فانظري إلى هانئ في السوق وابن عقيل تري جسدا قد غير الموت لونه
ونضح دم قد سال كل مسيل أصابهما أمر الإمام فأصبحا
أحاديث من يسعى بكل سبيل
وفي رواية أخرى : أن الحسين لما خرج من المدينة قيل له : لو تجنبت الطريق كما فعل لأجل الطلب . قال : لا والله ، لا أفارقها حتى يقضي الله ما أحب . فاستقبله ابن الزبير عبد الله بن مطيع ، فقال له : جعلت فداك ، أين تريد ؟ قال : أما الآن فمكة وما بعدها ، فإني أستخير الله ، فقال : خار الله لك ، وجعلنا فداك ، فإذا أتيت مكة فإياك أن تقرب الكوفة ، فإنها بلدة مشئومة ، بها قتل أبوك ، وخذل أخوك ، واغتيل بطعنة كادت تأتي على نفسه ، الزم الحرم ، فإنك سيد العرب ، ولا يعدل بك أهل الحجاز أحدا ، ويتداعى الناس إليك من كل جانب . فنزل مكة ، واختلف أهلها إليه وأهل الآفاق ، لازم جانب وابن الزبير الكعبة ، فهو قائم يصلي عندها ، ويطوف ، ويأتي حسينا فيمن يأتيه ، ويشير عليه ، وهو أثقل خلق الله على لأنه قد علم أن أهل ابن الزبير الحجاز لا يبايعونه أبدا ما دام حسين بالبلد ، وقام سليمان بن صرد بالكوفة ، فقال : إن كنتم تعلمون أنكم تنصرون حسينا فاكتبوا إليه ، وإن خفتم الفشل فلا تغروه . قالوا : بل نقاتل عدوه .
فكتبوا إليه : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) . لحسين بن علي من ، سليمان بن صرد والمسيب بن نجية ، ورفاعة بن شداد ، وحبيب بن مظاهر وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة . سلام عليك ، فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، الحمد لله الذي قصم عدوك ، وإنه ليس علينا إمام ، فأقبل لعل الله يجمعنا بك . فقدم الكتاب عليه بمكة لعشر مضين من رمضان ، ثم جاءه مائة وخمسون كتابا من الرجل والاثنين والثلاثة ، ثم جاءه كتاب آخر يقولون : حي هلا ، فإن الناس ينتظرونك ، [ ص: 328 ] فالعجل العجل . وتلاقت الرسل كلها عنده . فقرأ الكتب ، وكتب مع هانئ بن هاني السبيعي ، وسعيد بن عبيد الحنفي ، وكانا آخر الرسل :
( بسم الله الرحمن الرحيم ) . من حسين بن علي إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين . أما بعد ، فإن هانئا وسعيدا قدما علي ، وكانا آخر من قدم من رسلكم ، وقد بعثت أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي وأمرت أن يكتب إلي بحالكم ، فإن كتب إلي أنه قد أجمع رأي ملئكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت به علي رسلكم ، قدمت عليكم إن شاء الله تعالى .
فلما قتل مسلم بن عقيل وهانئ ، وكان الحسين قد خرج من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة ، وكان قد أشار عليه جماعة منهم أن لا يخرج ، وكان من جملة ما قال له : أتسير إلى قوم أميرهم عليهم قاهر لهم ، وعماله تجبي بلادهم ، فإنما دعوك إلى الحرب ، ولا آمن أن يكذبوك . فقال : أستخير الله ، ثم عاد إليه فقال له : إني أتصبر ولا أصبر ، إني أتخوف عليك أهل ابن عباس العراق ، فإنهم أهل غدر ، أقم بهذا البلد فإنك سيد الحجاز ، فإن كان أهل العراق يريدونك (فاكتب إليهم ) .
فلينفوا عدوهم ، وإن أبيت فسر إلى اليمن ، فإن بها حصونا وشعابا ، وهي أرض عريضة . فقال : قد أجمعت المسير . قال : فلا تسر بنسائك وصبيتك ، فإني أخاف ما جرى ونساؤه وولده ينظرون إليه ، ولقد أقررت عيني لعثمان بتخليتك إياه ابن الزبير بالحجاز ، والله لو أني أعلم أنك إذا أخذت بشعرك وناصيتك حتى يجتمع علي وعليك الناس أطعتني لفعلت .
ثم خرج ، فلقي ، فقال : قرت عينك ، هذا ابن الزبير حسين يخرج إلى العراق ، ويخليك والحجاز ، ثم أنشد مرتجزا متمثلا :
يا لك من قبرة بمعمر خلا لك الجو فبيضي واصفري
ونقري ما شئت أن تنقري
[ ص: 329 ] وكتب عبيد الله إلى يزيد : أما بعد ، فالحمد لله الذي أخذ لأمير المؤمنين بحقه ، وكفاه مئونة عدوه ، إن مسلم بن عقيل لجأ إلى دار هانئ بن عروة فكدتهما حتى استخرجتهما وضربت أعناقهما ، وقد بعثت برأسيهما .
فكتب إليه يزيد : إنك على ما أحب عملت عمل الحازم ، وصلت صولة الشجاع ، وقد بلغني أن الحسين قد توجه نحو العراق ، فضع المناظر والمسالح ، واحترس ، واجلس على الظنة ، وخذ على التهمة ، غير أن لا تقتل إلا من قاتلك ، واكتب إلي في كل ما يحدث من خير إن شاء الله .
قال علماء السير : الحسين ، بما جرى لمسلم بن عقيل هم أن يرجع ، فقال أخو : والله لا ترجع حتى نصيب بثأرنا مسلم . فقال لما علم الحسين : لا خير في الحياة بعدكم . فسار فلقيته أوائل خيل عبيد الله ، فنزل كربلاء ، فضرب أبنيته ، وكان أصحابه خمسة وأربعين فارسا ومائة راجل .