فصل [في إظهار الخلاف معاوية ] لعلي
وفي سبب مخالفة معاوية رضي الله عنه علي ، فإنه بلغه أن إظهار عليا رضي الله عنه ، قال: لا أقره على عمله ، فقال والله لا ألي له شيئا ولا أبايعه ، ولا أقدم عليه ، فبعث إليه معاوية: يدعوه إلى الطاعة فأبى ، فحينئذ عزم جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه على الخروج إلى علي صفين . وقال دعا سهل بن سعد: رضي الله عنه علي قيس بن سعد الأنصاري ، فقال له: سر إلى مصر فقد وليتكها ، فإذا أنت قدمتها فأحسن إلى المحسن ، واشتد على المريب وارفق بالعامة والخاصة . فلما قدم أخذ البيعة رضي الله عنه ، واستقامت له لعلي مصر ، إلا أن قرية منها يقال لها: "خربتا" فيها أناس قد أعظموا قتل عثمان رضي الله عنه ، وبها رجل يقال له: يزيد بن الحارث من بني مدلج . فبعث إلى قيس: أقرنا على حالنا حتى ننظر إلى ما يصير إليه أمر الناس . [ ص: 98 ]
فكتب إلى معاوية سلام عليك ، أما بعد ، فإنكم كنتم نقمتم على قيس بن سعد: عثمان في أثرة رأيتموها ، أو ضربة بسوط ضربها ، فإنكم قد علمتم أن دمه لم يكن يحل لكم ، فتب إلى الله يا ، فإنك كنت من المجلبين على قيس بن سعد ، فأما صاحبك فقد استيقنا أنه الذي أغرى الناس به ، وحملهم على قتله ، فإن استطعت يا عثمان بن عفان قيس أن تكون ممن يطلب بدم عثمان فافعل ، تابعنا على أمرنا ، ولك سلطان العراق إذا ظهرت ما بقيت ، ولمن أحببت من أهل بيتك سلطان الحجاز ما دام لي سلطان . وسلني غير هذا مما تحب .
فلما جاءه كتاب أحب أن يدافعه ، فكتب إليه: أما بعد ، فقد بلغني كتابك ، وفهمت ما ذكرت فيه من قتل معاوية عثمان ، وذلك أمر لم أفارقه ، وذكرت أن صاحبي هو الذي أغرى الناس ، وهذا لم أطلع عليه ، وأما ما سألتني من متابعتك وعرضت علي من الجزاء فيه فهذا أمر لي فيه نظر ، ولن يأتيك شيء تكرهه . بعثمان
فلما قرأ الكتاب كتب إليه: أما بعد ، فإني لم أرك تدنو فأعدك سلما ، ولم أرك تباعد فأعدك حربا ، وليس مثلي ينخدع ومعه عدد الرجال ، وبيده أعنة الخيل . معاوية
فلما قرأ كتاب ، ورأى أنه لا يقبل منه المدافعة ، كتب إليه: معاوية
بسم الله الرحمن الرحيم من إلى قيس بن سعد ، أما بعد ، فالعجب العجيب من اغترارك وطمعك في أن تسومني للخروج من طاعة أولى الناس بالإمارة ، وأقولهم للحق ، وأقربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمرني بالدخول في طاعة أبعد الناس من هذا الأمر ، وأقولهم بالزور ، وأضلهم سبيلا ، وقولك إني مالئ عليك معاوية بن أبي سفيان مصر خيلا ورجلا ، فو الله لأشغلنك بنفسك حتى تكون نفسك أهم إليك ، إنك لذو جد ، والسلام .
فلما أتى كتاب معاوية قيس أيس منه ، وثقل عليه مكانه .
قال : كان الزهري معاوية جاهدين أن يخرجا وعمرو بن العاص قيسا من مصر [ ص: 99 ] ليغلبا عليها ، وكان قد امتنع منها بالدهاء والمكايدة ، فلم يقدرا عليه حتى معاوية من قبل قيس بن سعد علي ، فكان كاد يقول: ما ابتدعت مكايدة قط كانت أعجب عندي من مكايدة كدت بها معاوية قيسا من قبل ، فكتبت إلى علي أهل الشام : لا تسبوا قيسا فإنه لنا شيعة ، تأتينا كتبه ونصيحته سرا . ألا ترونه يحسن إلى كل راكب منكم ، ألا ترون ما يفعل بإخوانكم من أهل خربتا ، يجري عليهم أعطياتهم وأرزاقهم .
فبلغ ذلك عليا فاتهم قيسا وكتب إليه يأمره بقتال أهل خربتا ، وأهل خربتا يومئذ عشرة آلاف ، فأبى وكتب إلى : إنهم وجوه علي أهل مصر ، وقد رضوا مني أن أؤمن سربهم ، وأجري عليهم أعطياتهم ، وقد علمت أن هواهم مع ، فأبى معاوية رضي الله عنه إلا قتالهم ، وأبى علي قيس أن يقاتلهم ، وكتب إلى : إن كنت تتهمني فاعزلني عن عملك ، وابعث عليه غيري ، فبعث علي الأشتر إلى مصر أميرا عليها حتى إذا صار بالقلزم سقي شربة عسل فيها سم كان فيها حتفه .
فلما بلغ عليا وفاة الأشتر بالقلزم بعث محمد بن أبي بكر أميرا على مصر . هذا قول . الزهري
وقال هشام بن محمد: إنما بعث الأشتر بعد هلاك محمد بن أبي بكر ، ولما جاء عليا مقتل محمد بن أبي بكر علم أن قيسا كان ينصحه فأطاعه في كل شيء . قال علماء السير: وكان رضي الله عنه قد كتب عهد علي محمد بن أبي بكر لغرة رمضان ، فلم يلبث محمد شهرا كاملا حتى بعث إلى أولئك الذين كان قيس وادعهم ، وقال: يا هؤلاء ، إما أن تدخلوا في طاعتنا ، وإما أن تخرجوا من بلادنا ، فبعثوا إليه: دعنا حتى ننظر ، فأبى وبعث إليهم رجلا فقتلوه ، ثم بعث آخر فقتلوه .