3882 - علي بن عقيل بن محمد بن عقيل ، أبو الوفاء الفقيه فريد دهره وإمام عصره:
قال شيخنا : سألته عن مولده ، فقال: ولدت في جمادى الآخرة سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة ، وكذا رأيته أنا بخطه ، وكان حسن الصورة ، ظاهر المحاسن ، حفظ القرآن ، وقرأ القراءات على أبو الفضل ابن ناصر ، أبي الفتح بن شيطا وغيره ، وكان يقول:
شيخي في القراءة ابن شيطا ، وفي الأدب والنحو أبو القاسم بن برهان ، وفي الزهد أبو بكر الدينوري ، وأبو منصور بن زيدان ، أحلى من رأيت وأعذبهم كلاما في الزهد ، وابن الشيرازي ، ومن النساء الحرانية ، وبنت الجنيد ، وبنت الغراد المنقطعة إلى قعر بيتها لم تصعد سطحا قط ، ولها كلام في الورع ، وسيد زهاد عصره ، وعين الوقت أبو الوفاء القزويني ومن مشايخي في آداب التصوف أبو منصور ابن صاحب الزيادة العطار شيخ [ ص: 180 ] زاهد مؤثر بما يفتح له فتخلق بأخلاق مقتدى الصوفية ، ومن مشايخي في الحديث التوزي ، وأبو بكر بن بشران ، والعشاري ، والجوهري ، وغيرهم . ومن مشايخي في الشعر والترسل ابن شبل ، وابن الفضل . وفي الفرائض أبو الفضل الهمذاني وفي الوعظ أبو طاهر بن العلاف صاحب وفي الأصول ابن سمعون ، أبو الوليد ، وأبو القاسم بن البيان ، وفي الفقه أبو يعلى ابن الفراء المملوء عقلا وزهدا وورعا ، قرأت عليه حين عبرت من باب الطاق لنهب الغز لها سنة أربع وأربعين ، ولم أخل بمجالسته وخلواته التي تتسع لحضوري والمشي معه ماشيا ، وفي ركابه إلى أن توفي ، وحظيت من قربه لما لم يحظ به أحد من أصحابه مع حداثة سني ، والشيخ أبو إسحاق [الشيرازي] إمام الدنيا وزاهدها ، وفارس المناظرة وواحدها ، وكان يعلمني المناظرة ، وانتفعت بمصنفاته ، وأبو نصر ابن الصباغ ، وأبو عبد الله الدامغاني ، حضرت مجلس درسه ونظره من سنة خمسين إلى أن توفي ، وقاضي القضاة الشامي انتفعت به غاية النفع ، وأبو الفضل الهمذاني ، وأكبرهم سنا وأكثرهم فضلا حظيت برؤيته ومشيت في ركابه ، وكانت صحبتي له حين انقطاعه عن التدريس والمناظرة فحظيت بالجمال والبركة . أبو الطيب الطبري
ومن مشايخي أبو محمد التميمي كان حسنة العالم وماشطة بغداد ، ومنهم كان حافظ وقته ، وكان أصحابنا أبو بكر الخطيب الحنابلة يريدون مني هجران جماعة من العلماء وكان ذلك يحرمني علما نافعا ، وأقبل علي أبو منصور بن يوسف فحظيت منه بأكثر من حظوة وقدمني في الفتاوى مع حضور من هو أسن مني ، وأجلسني البرامكة بجامع المنصور لما مات شيخي سنة ثمان وخمسين ، وقام بكل مؤنتي وتجملي فقمت من الحلقة أتتبع حلق العلماء لتلقط الفوائد ، فأما أهل بيتي فإن بيت أبي فكلهم أرباب أقلام وكتابة وشعر وآداب ، وكان جدي محمد بن عقيل كاتب حضرة وهو المنشئ لرسالة عزل بهاء الدولة ، الطائع وتولية ووالدي أنظر الناس ، وأحسنهم جدلا وعلما ، وبيت أمي بيت القادر ، صاحب الكلام والمدرس على مذهب الزهري وعانيت من الفقر والنسخ بالأجرة مع عفة وتقى ، ولا أزاحم فقيها في حلقة ، ولا تطلب نفسي رتبة من رتب أهل العلم القاطعة لي عن الفائدة ، وتقلبت على الدول فما أخذتني دولة السلطان ولا عاقة [ ص: 181 ] عما أعتقد أنه الحق ، فأوذيت من أصحابي حتى طل الدم ، وأوذيت من دولة أبي حنيفة ، النظام بالطلب والحبس ، فيا من خسرت الكل لأجله لا تخيب ظني فيك ، وعصمني الله من عنفوان الشبيبة بأنواع من العصمة ، وقصر محبتي على العلم وأهله ، فما خالطت ملعابا ولا عاشرت إلا أمثالي من طلبة العلم .
وأفتى ابن عقيل ودرس ، وناظر الفحول ، واستفتى في الديوان في زمن القائم في زمرة الكبار ، وجمع علوم الأصول والفروع ، وصنف فيها الكتب الكبار ، وكان دائم الاشتغال بالعلم حتى إني رأيت بخطه: إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة ، وبصري عن مطالعة ، أعمل فكري في حال راحتي وأنا مستطرح ، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره ، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عشر الثمانين أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين .
وكان له الخاطر العاطر والبحث عن الغوامض والدقائق ، وجعل كتابه المسمى "بالفنون" مناظرا لخواطره وواقعاته ، ومن تأمل واقعاته فيه عرف غور الرجل ، وتكلم على المنبر بلسان الوعظ مدة ، فلما كانت سنة خمس وسبعين وأربعمائة جرت فيها فتن بين الحنابلة والأشاعرة فترك الوعظ واقتصر على التدريس ، ومتعه الله بسمعه وبصره وجميع جوارحه .
قال المصنف: وقرأت بخطه ، قال: "بلغت لاثنتي عشرة سنة وأنا في سنة الثمانين وما أرى نقصا في الخاطر والفكر والحفظ وحدة النظر وقوة البصر لرؤية الأهلة الخفية إلا أن القوة بالإضافة إلى قوة الشبيبة والكهولة ضعيفة" .
وكان ابن عقيل قوي الدين ، حافظا للحدود ، ومات ولدان له فظهر منه من الصبر ما يتعجب منه ، وكان كريما ينفق ما يجد فلم يخلف سوى كتبه وثياب بدنه فكانت بمقدار كفنه وقضاء دينه ، وكان إذ طال عمره يفقد القرناء والإخوان . قال المصنف رحمه الله: فقرأت بخطه: رأينا في أوائل أعمارنا أناسا طاب العيش [ ص: 182 ] معهم كالدينوري ، والقزويني وذكر من قد سبق اسمه في حياته ، ورأيت كبار الفقهاء كأبي الطيب وابن الصباغ وأبي إسحاق ، ورأيت إسماعيل والد المزكي تصدق بسبعة وعشرين ألف دينار ، ورأيت من بياض التجار كابن يوسف وابن جرده وغيرهما ، والنظام الذي سيرته بهرت العقول ، وقد دخلت في عشر التسعين وفقدت من رأيت من السادات ولم يبق إلا أقوام كأنهم المسوخ صورا ، فحمدت ربي إذ لم يخرجني من الدار الجامعة لأنوار المسار بل أخرجني ولم يبق مرغوب فيه فكفاني محنة التأسف على ما يفوت ، لأن التخلف مع غير الأمثال عذاب ، وإنما هون فقداني للسادات نظري إلى الإعادة بعين اليقين ، وثقتي إلى وعد المبدئ لهم ، فلكأني أسمع داعي البعث وقد دعا كما سمعت ناعيهم وقد نعى حاشي المبدئ لهم على تلك الأشكال والعلوم أن يقنع لهم في الوجود بتلك الأيام اليسيرة المشوبة بأنواع الغصص وهو المالك ، لا والله لا أقنع لهم إلا بضيافة تجمعهم على مائدة [تليق] بكرمه ، ونعيم بلا ثبور ، وبقاء بلا موت ، واجتماع بلا فرقة ، ولذات بغير نغصة .
وحدثني بعض الأشياخ أنه لما احتضر ابن عقيل بكى النساء ، فقال: قد وقفت خمسين سنة فدعوني أتهنأ بلقائه .
توفي رضي الله عنه بكرة الجمعة ثاني عشر جمادى الأولى من هذه السنة ، وصلى عليه في جامع القصر والمنصور ، وكان الجمع يفوق الإحصاء . قال شيخنا : ابن ناصر ،
حزرتهم بثلاثمائة ألف ، ودفن في دكة الإمام أحمد وقبره ظاهر [فما كان في مذهبنا أحد مثله .
وقال شيخنا أبو الحسن الزعفراني: دفن في الدكة بعد الخادم مخلص] . [ ص: 183 ]