[ ص: 3 ]
ثم دخلت سنة ست وثمانين وأربعمائة
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه فمن الحوادث فيها:
أنه كان قد قدم إلى بغداد في شوال سنة خمس وثمانين رجل من أهل مرو واسمه أردشير بن منصور أبو الحسين العبادي ، ثم خرج إلى الحج ، فلما قدم جلس في النظامية سنة ست ، وحضره المدرس بها ، وكان أبو حامد الغزالي يحاضره ويسمع كلامه منذ قدم الغزالي بغداد ، فلما جلس كثر الناس عليه حتى امتلأ صحن المدرسة وأروقتها وبيوتها وغرفها وسطوحها ، وعجز المكان فكان يجلس في قراح ظفر ، وفي كل مجلس يتضاعف الجمع ، وذرعت الأرض التي عليها الرجال خاصة فكان طولها مائة وسبعين ذراعا وعرضها مائة وعشرين ذراعا ، وكان النساء أكثر من ذلك ، فكانوا على سبيل الحزر ثلاثين ألفا ، وكان صمت هذا الرجل أكثر من نطقه ، وكانت آثار الزهادة بينة عليه ، وكان إذا تكلم كلمة ضجوا وهاموا ، وترك أكثر الناس معايشهم ، وحلق أكثر الصبيان شعورهم ، وأووا إلى المساجد والجوامع ، وتوفروا على الجماعات ، وأريقت الأنبذة والخمور ، وكسرت آلات الملاهي .
وحكى إسماعيل بن أبي سعد الصوفي قال: كان العبادي ينزل رباطا وكان في الرباط بركة كبيرة يتوضأ فيها ، فكان الناس ينقلون منها الماء بالقوارير والكيزان تبركا ، حتى كان يظهر فيها نقصان الماء .
[ ص: 4 ]
وحدثني أبو منصور الأمين أنه قام إليه رجل ليتوب ، فقال له: قف مكانك ليغسلك ماء المطر . فوقف ، فوقع ماء المطر وأظنه قال: وليس في السماء قزعة . قال: وقال يوما: يا أبا منصور ، أشتهي توثا شاميا وثلجا؛ فإن حلقي قد تغير . قال: فعبرت إلى الجانب المغربي ولي ثم بساتين ، فطفت واجتهدت فلم أجد ، فرجعت قبيل الظهر ، فدخلت إلى الدار وكان أصحابه فيها وهو منفرد في بيت ، فقلت لأصحابه: من جاء اليوم؟ فقالوا: جاءت امرأة فقالت: قد غزلت غزلا وأحب أن تقبل مني ثمنه ، فأخبرناه فقال: ليس لي بذلك عادة ، فجلست تبكي فرحمها فقال: قولوا لها تشتري ما يقع في نفسها ، فخرجت فاشترت توثا شاميا وثلجا وجاءت به .
وقال لي أبو منصور: ودخلت يوما عليه فقال لي: يا أبا منصور ، قد اشتهيت أن تعمل لي دعوة فاشتريت الدجاج ، وعقدت الحلوى ، وغرمت أكثر من أربعين دينارا ، فلما تم ذلك جلس يفرقه [و] يقول: احمل هذا إلى الرباط الفلاني وإلى الموضع الفلاني . فلما انتهينا رآني كأني ضيق الصدر؛ إذ لم يتناول منه شيئا ، فغمس إصبعه الصغرى في الحلوى ، وقال: يكفي هذا .
قال وكنت أراصده في الليل ، فربما تقلب طول الليل على الفراش ، ثم قام وقت الفجر فصلى بوضوئه . وكان معه طعام قد جاء به من بلده ، فلم يأكل من غلة بغداد .
وحكى لي عبد الوهاب بن أبي منصور الأمين عن أبيه قال: دخلت على العبادي وهو يشرب مرقة فقلت في قلبي: ليته أعطاني فضلته لأشربها لعلي أحفظ القرآن .
قال: فناولني ما فضل منه ، وقال: اشربه على تلك النية . فشربته ورزقني الله حفظ القرآن .
وحكي لي أن هذا الرجل تكلم في الربا وبيع القراضة بالصحيح ، فمنع من الجلوس ، وأمر بالخروج من البلد فخرج .