ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة
فمن الحوادث فيها:
أنه في تاسع عشر المحرم أبو بكر الشاشي في المدرسة التي بناها تاج الملك أبو الغنائم بباب أبرز ، ووقفها على أصحاب الشافعي ، وسماها: التاجية . درس
وفي ثالث صفر: بغداد بزان وصواب بعثهما السلطان إلى فطلبا تسليم المقتدي ، خاتون إليهما ، وكانت ورد إلى خاتون قد أكثرت الشكاية إلى أبيها من إعراض الخليفة عنها ، فأجاب الخليفة إلى ذلك ، وخرجت وأصحبها الخليفة النقيبين الكامل والطاهر وجماعة من الخدم ، وخرج معها ابنها الأمير أبو الفضل جعفر بن المقتدي ، وكان خروجها يوم الأربعاء سادس عشر ربيع الأول ، وخرج الوزير عشية الخميس مشيعا لهم إلى النهروان ، وكان بين يدي محفة الأمير أبي الفضل ، ووصل الخبر في ثاني شوال بموتها بأصفهان بالجدري ، فجلس الوزير أبو شجاع بباب الفردوس للعزاء بها سبعة أيام ، ووصل النقيبان من أصبهان في ثالث عشر شوال .
وفي سلخ ذي الحجة: أبو محمد التميمي وعفيف لتعزية السلطان ، فأما خرج التميمي فعاد من أصبهان لأن السلطان توجه إلى ما وراء النهر وأكبر الخليفة عوده بغير إذن ، ويمم عفيف إلى السلطان .
وفي عشية الجمعة تاسع عشر صفر: باب البصرة الكرخيين ، فقتلوا [ ص: 282 ] رجلا وجرحوا آخر ، فأغلقت أسواق كبس أهل الكرخ ، ورفعت المصاحف على القصب ، وما زالت الفتن تزيد وتنقص إلى جمادى الأولى ، فقويت نارها ، وقتل خلق كثير ، واستولى أهل المحال على قطعة كبيرة من الكرخ فنهبوها ، فنزل خمارتاش نائب الشحنة على دجلة ليكف الفتنة فلم يقدر ، وكان أهل الكرخ يخرجون إليه وإلى أصحابه الإقامة ، وكان أهل باب البصرة يأتون ومعهم سبع أحمر يقاتلون تحته ، وعزموا على قصد باب التبن فمنعهم أهل الحربية والهاشميون من ذلك ، وركب حاجب الخليفة وخدمه ، والقضاة: أبو الفرج بن السيبي ، ويعقوب البرزبيني ، وأبو منصور ابن الصياغ ، والشيوخ: أبو الوفاء بن عقيل ، وأبو الخطاب ، وأبو جعفر بن الخرقي المحتسب ، وعبروا إلى الشحنة وقرءوا منشورا بالكرخ من الديوان وفيه: قد حكي عنكم أمور فيجب أن نأخذ علماءكم على أيدي سفهائكم ، وأن يدينوا بمذهب أهل السنة ، فأذعنوا بالطاعة .
فبينا هم على ذلك جاء الصارخ من نهر الدجاج: الحقونا . ونصب أهل الكرخ رايتين على باب المساكين ، وكتبوا على مساجدهم: خير الناس بعد رسول الله أبو بكر ، ثم ثم عمر ، عثمان ، ثم علي .
وفي غد يوم القتال نهب أهل الكرخ شارع ابن أبي عوف ، وكان في جملة ما نهب دار أبي الفضل بن خيرون ، فقصد الديوان مستنفرا ومعه الناس ، ورفع العامة الصلبان على القصب ، وتهجموا على الوزير أبي شجاع في حجرته [من الديوان] وكثروا من الكلام الشنيع ، ولم يصل حاجب الباب في جامع القصر إشفاقا من العامة ، وكان قد مات يومئذ هاشمي من أهل باب الأزج بنشابة وقعت فيه ، فقتل العامة علويا ورموه في خربة الحمام ، وزاد أمر الفتنة وأمر الخليفة بمكاتبة سيف الدولة أبي الحسن صدقة بن [ ص: 283 ] مزيد بإنفاذ جند ، ففعل وخلع عليهم ، وجعل عليهم ، أبو الحسن الفاسي ، فنقض دور الذين قتلوا العلوي ، وحلق شعور من ليس بشريف ولا جندي ، وقتل قوم ، ونفي قوم ، فسكنت الفتنة .
قال المصنف: ونقلت من خط قال: عظمت الفتنة الجارية بين السنة وأهل أبى الوفاء بن عقيل الكرخ ، فقتل فيها نحو مائتي قتيل ، ودامت شهورا من سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة ، وانقهر الشحنة ، وأتحش السلطان ، وصار العوام يتبع بعضهم بعضا في الطرقات والسفن ، فيقتل القوي الضعيف ، ويأخذ ماله ، وكان الشباب قد أحدثوا الشعور والجمم ، وحملوا السلاح ، وعملوا الدروع ، ورموا عن القسي بالنشاب والنبل ، وسب أهل الكرخ الصحابة وأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم على السطوح ، [وارتفعوا إلى سب النبي صلى الله عليه وسلم] ، ولم أجد من سكان الكرخ من الفقهاء والصلحاء من غضب ولا انزعج عن مساكنتهم ، فنفر إمام العصر نفرة قبض فيها على العوام ، وأركب الأتراك ، وألبس الأجناد الأسلحة ، وحلق الجمم والكلالجات ، وضرب بالسياط ، وحبسهم في البيوت تحت السقوف ، وكان شهر آب ، فكثر الكلام على السلطان وقال العوام: المقتدي
هلك الدين ماتت السنة ، ونصبت البدعة ، ونرى أن الله ما ينصر إلا الرافضة فنرتد عن الإسلام .
قال ابن عقيل: فخرجت إلى المسجد وقلت: بلغني أن أقواما يتسمون بالإسلام والسنة قد غضبوا على الله وهجروا شريعته ، وعزموا على الارتداد وقد ارتدوا ، فإن المسلمين أجمعوا على أن العزم على الكفر كفر ، فلقد بلغ الشيطان منهم كل مبلغ حيث دلس عليهم نفوسهم ، وغطى عيوبهم ، وأراهم أن إزالة النصرة عنهم مع استحقاقهم لها ، ولم يكشف عن عوار أديانهم حيث صب عليهم النعم صبا ، وأرخص أسعارهم ، وأمن ديارهم ، وجعل سلطانهم ، رحيما لطيفا ، وجعل لهم وزيرا صالحا يجتهد في إخراج الحكومات المشتبهة إلى الفقهاء ليخلص دينه من التبعات ، ويأخذ الإجماع [ ص: 284 ] في أكثر العبادات ، ولا يتكبر ولا يحتجب ، فأمرجوا في المعاصي ، ثم انتقلوا إلى بناء العقود بالطبول ، ولهج منهم قوم بسب ، فلما نهض السلطان بعصبية دينية أو سياسة ، وقد استحقوا قطع الرءوس ، وتخليد الحبوس ، فقعد الحمقى في مأتم النياحة يقولون:
هل رأيتم في الزمن الماضي مثل ما جرى على أهل السنة في هذه الدولة ، طاب والله الانتقال عن الإسلام لو كان ما نحن فيه حقا لنصرة الله . وحملوا الصلبان في حلوقهم ، ودعوا بشعار الرفض ، وقالوا: لا دين إلا دين أهل الكرخ ، وهل كانوا على الدين فيخرجوا ، وهل الدين النطق باللسان من غير تحقيق معتقد ، وأس المعتقد من قوم تناهوا في العصيان والشرود عن الشرع ، وسفكوا الدماء ، فلما فرضوا بعذاب ردعا لهم ليقلعوا أنكروا وتسخطوا ، فأردتم أن يتبع الحق أهواءكم ويسكت السلاطين عن قبيح أفعالكم ، حتى تفانون بالخصومة والمحاربة ، فلا في أيام السعة والدعة شكرتم النعم ، ولا في أيام التأديب سلمتم للحكيم الحكم ، فليتكم لما فسدت دنياكم أبقت بقية من أمر أديانكم .