ولد في ليلة الاثنين ثامن ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة بدامغان ، وتفقه ببلده ، ثم دخل إلى بغداد يوم الخميس سادس عشرين رمضان سنة تسع عشرة فتفقه على أبي عبد الله الحسين بن علي الصيمري ، وأبي الحسين أحمد بن محمد القدوري ، وسمع منهما الحديث ، وبرع في الفقه ، وخص بالعقل الوافر والتواضع ، فارتفع وشيوخه أحياء ، وانتهت إليه الرئاسة في مذهب العراقيين ، وكان فصيح العبارة ، [ ص: 250 ] كثير التشوار في درسه ، سهل الأخلاق ، روى عنه شيوخنا ، وعانى الفقر في طلب العلم ، فربما استضوأ بسراج الحارس .
وحكى عنه أنه قال: كان لي من الحرص على الفقه في ابتداء أمري أني كنت آخذ المختصرات وأنزل إلى أبو الوفاء ابن عقيل دجلة أطلب أفياء الدور الشاطئية والمسنيات ، فأنظر في الجزء وأعيده ، ولا أقوم إلا وقد حفظته ، فأدى بي السعي إلى مسناة الحريم الطاهري ، فجلست في فيئها الثخين ، وهوائها الرقيق ، واستغرقني النظر ، فإذا شيخ حسن الهيئة قد اطلع علي ، ثم جاءني بعد هنيهة فراش فقال: قم معي . فقمت معه حتى جاء بي إلى باب كبير وعليه جماعة حواش ، فدخل بي إلى دار كبيرة وفيها دست مضروب ليس فيها أحد ، فأدناني منه فجلست ، وإذا بذلك الشيخ الذي اطلع علي قد خرج فاستدناني منه ، وسألني عن بلدي فقلت: دامغان ، وكان علي قميص خام وسخ وعليه آثار الحبر ، فقال: ما مذهبك ، وعلى من تقرأ؟ فقلت: حنفي ، قدمت منذ سنين وأقرأ على الصميري ، وابن القدوري . فقال: من أين مؤنتك؟ قلت: لا جهة لي أتمون منها . فقال: ما تقول في مسألة كذا وكذا من الطلاق؟ وبسطني ثم قال: تجيء كل خميس إلى ها هنا . فلما جئت أقوم أخذ قرطاسا وكتب شيئا [ودفعه إلي] وقال: تعرض هذا على من فيه اسمه وتأخذ ما يعطيك . فأخذته ودعوت له ، فأخرجت من باب آخر غير الذي دخلت منه ، وإذا عليه رجل مستند إلى مخدة ، فتقدمت [إليه فقلت] : من صاحب هذه الدار؟ فقال: هذا ابن المقتدر بالله . فقال: فما معك؟
فقلت: شيء كتبه لي . فقال: بخطه ، أين كان الكاتب؟ فقلت: على من هذا؟ فقال: على رجل من أهل باب الأزج: عشر كارات دقيق سميد فائق ، وكانت الكارة تساوي ثمانية دنانير ، وكتب لك بعشرة دنانير . فسررت ومضيت إلى الرجل ، فأخذ الخط ودهش ، وقال: هذا خط مولانا الأمير ، فبادر فوزن الدنانير وقال: كيف تريد الدقيق؟
[ ص: 251 ]
جملة أو تفاريق؟ فقلت: أريد كارتين منها ، وثمن الباقي . ففعل فاشتريت كتبا فقهية بعشرين وكاغدا بدينارين .
وشهد عند أبي عبد الله بن ماكولا قاضي القضاة في يوم الأربعاء ثالث عشر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ، فلما توفي قال ابن ماكولا القائم بأمر الله لأبي منصور بن يوسف: قد كان هذا الرجل - يعني - قاضيا حسنا نزها ، ولكنه كان خاليا من العلم ، ونريد قاضيا عالما دينا . فنظر ابن ماكولا ابن يوسف إلى عميد الملك الكندري هو المستولي على الدولة ، وهو الوزير ، وهو شديد التعصب لأصحاب الإمام فأراد التقرب إليه ، فاستدعى أبي حنيفة ، أبا عبد الله الدامغاني فولي قاضي القضاة يوم الثلاثاء تاسع ذي القعدة سنة سبع وأربعين ، وخلع عليه ، وقرئ عهده ، وقصد خدمة السلطان في يوم الأربعاء عاشر ذي القعدة ، فأعطاه دست ثياب وبغلة ، واستمرت ولايته ثلاثين سنة ، ونظر نيابة عن الوزارة مرتين: مرة طغرلبك ومرة للقائم بأمر الله ، للمقتدي .
وكان يوصف بالأكل الكثير ، فروى الأمير باتكين بن عبد الله الزعيمي قال: حضرت طبق الوزير فخر الدولة ابن جهير ، وكان يحضره الأكابر ، فحضر قاضي القضاة محمد بن علي ، فأحببت أن أنظر إلى أكله ، فوقفت بإزائه ، فأبهرني كثرة أكله حتى جاوز الحد ، وكان من عادة الوزير أن ينادم الحاضرين على الطبق ، ويشاغلهم حتى يأكلوا ، ولا يرفع يده إلا بعد الكل ، فلما فرغ الناس من الأكل قدمت إليهم أصحن الحلوى ، وقدم بين يدي قاضي القضاة صحن فيه قطائف بسكر [وكانت الأصحن] كبارا ، يسع الصحن منها أكثر من ثلاثين رطلا ، فقال له الوزير يداعبه: هذا برسمك .
فقال: هلا أعلمتموني . ثم أكله حتى أتى على آخره .
مرض يوم الأربعاء سابع عشر رجب ، وكان الناس يدخلون فيعودونه إلى آخر يوم الأربعاء الرابع والعشرين من رجب ، فحجب عن الناس الخميس [ ص: 252 ] والجمعة وتوفي ليلة السبت الرابع والعشرين من رجب . وقد ناهز الثمانين . فنزع الفقهاء طيالستهم يوم موته ، وصلى عليه ابنه أبو عبد الله الدامغاني أبو الحسن ، ودفن بداره بنهر القلائين ، ثم نقل إلى مشهد أبي حنيفة .
3548 - محمد بن علي بن المطلب ، أبو سعد :
كان قد قرأ النحو واللغة ، والسير ، والآداب ، وأخبار الأوائل ، وقال شعرا كثيرا ، إلا أنه كان كثير الهجو ، ثم مال عن ذلك ، وأكثر الصوم والصلاة والصدقة ، وروى الحديث عن ابن بشران ، وابن شاذان ، وغيرهما ، وغسل مسودات شعره ، وأحرق بعضها بالنار ، وتوفي في هذه السنة وهو ابن ست وثمانين سنة .
3549 - محمد بن أبي طاهر ، العباسي ، ويعرف بابن الرجحي :
تفقه على أبي نصر ابن الصباغ وشهد عند وناب في القضاء فحمدت طريقته وتوفي في ذي القعدة من هذه السنة ودفن الدامغاني بمقبرة الجامع .
3550 - منصور [بن دبيس] بن علي بن مزيد :
توفي [وتولى الإمارة ابنه وتوفي في رجب هذه السنة . [ ص: 253 ] سيف الدولة صدقة]
3551 - هبة الله [بن عبد الله] بن أحمد بن السيبي ، أبو الحسن :
ولد سنة أربع وتسعين وثلاثمائة ، وسمع أبا الحسين بن بشران ، وابن أبي الفوارس ، وابن الحمامي ، وابن شاذان ، وكان مؤدبا ثم أدب أولاده . للمقتدي ،
توفي في محرم هذه السنة ، ودفن بمقبرة باب حرب ، وبلغ خمسا وثمانين سنة .
وكان ينشد من إنشائه:
رجوت الثمانين من خالقي لما جاء فيها عن المصطفى فبلغنيها وشكرا له
وزاد ثلاثا بها أردفا وها أنا منتظر وعده
لينجزه فهو أهل الوفا
كان له نقابة المشهد بسامراء ، وكان من ظراف البغداديين وكرمائهم ، وكان يصلي عامة الليل ، وتوفي في شعبان هذه السنة ، عن ثلاثة عشر ولدا ذكرا ، وبنت واحدة .
3553 - الجهة القائمية: أم ولد القائم بأمر الله ، الذخيرة والسيدة:
توفيت يوم الجمعة رابع عشرين جمادى الآخرة ، وأخرجت عشية الجمعة ، وصلى عليها ابن ابنها ، وحملت في الطيا إلى المقتدي بأمر الله باب الطاق ، فوصلت بعد عتمة ، ومشى الناس كلهم سوى الوزير إلى التربة بشارع الرصافة ، وجلس للعزاء بها ثلاثة أيام ، وكانت قد أوصت بجزء من مالها للحج والصدقات والقرب ، ويذكر عنها الصوم والصلاة والورع . [ ص: 254 ]
3554 - يحيى بن محمد بن القاسم ، أبو المعمر المعروف: بابن طباطبا العلوي :
وكان بقية شيوخ الطالبيين ، وكان هو وأخوه نسابتهم ، وكان ينزل بالبركة من ربع الكرخ ، وكان مجمعا لظراف الطالبيين وعلمائهم وشعرائهم وفضلائهم ، وكان يذهب مذهب الإمامية وقد قرأ طرفا من الأدب .
وتوفي في رمضان هذه السنة ، وهو آخر بني طباطبا ولم يعقب . [ ص: 255 ]