ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وأربعمائة
فمن الحوادث فيها:
أنه أرجان زلزلت وما تاخمها من النواحي ، وهلك خلق ، وسقطت منارة الجامع ، وهلك تحت الردم أمم من الآدميين والمواشي . وصل الخبر في المحرم بأن
[هبوب ريح عظيمة]
وفي ربيع الأول: هبت ريح عظيمة بعد العشاء ، واسودت الدنيا وادلهمت ، وكثر الرعد والبرق ، وعلا على السطوح رمل عظيم وتراب ، وكانت النيران تضطرم في جوانب السماء ، ووقعت صواعق بألسن والبوازيج ، وكسرت بالنيل نخيل كثيرة ، وغرقت سفن ، وخر كثير من الناس على وجوههم ، فاستمر ذلك إلى نصف الليل حتى ظنوا أنها القيامة ، ثم انجلت .
وفي هذا الشهر: ولد سماه: للمقتدي حسينا ، وكناه: أبا عبد الله ، وجلس النائب بالديوان العزيز ولد بباب الفردوس للتهنئة به ، وضربت الطبول والبوقات ، وكثرت الصدقات ، وخرج توقيع من أمير المؤمنين وفيه قد رفع إلى مجلس العرض الأشرف حال بني اليهود وتظاهرهم بما حظر على أهل الذمة المظاهرة به ، فمتى تعدوا شرطا مما أخذ منهم نقضوا العهد ، وبرئت منهم الذمة . قال الله تعالى: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم . [ ص: 240 ]
وفي جمادى الأولى : فخر الدولة أبو نصر ميافارقين عنوة ، فتم له بذلك الاستيلاء على فتح ديار بكر .
وفيه: بدأ الطاعون ببغداد ونواحيها ، وكان عامة أمراضهم الصفراء ، بينا الرجل في شغله أخذته رعدة فخر لوجهه ، ثم عرض لهم شناج وبرسام وصداع ، وكان الأطباء يصفون مع هذه الأمراض أكل اللحم لحفظ القوة ، فإنهم ما كانت تزيدهم الحمية إلا قوة مرض ، وكانوا يسمونها: مخوية ، وتقول الأطباء: ما رأينا مثل هذه الأمراض لا تلائمها المبردات ولا المسخنات ، واستمر ذلك إلى آخر رمضان فمات منه نحو عشرين ألفا ببغداد ، وكان المرض يكون خمسة أيام وستة ثم يأتي الموت ، وكان الناس يوصون في حال صحتهم ، وكان الميت يلبث يوما ويومين لعدم غاسل وحامل وحافر ، وكان الحفارون يحفرون عامة ليلتهم بالروحانية ليفي ذلك بمن يقبر نهارا ، ووهب للناس ضيعة تسمى الأجمة فامتلأت بالقبور ، وفرغت قرى من أهلها منها المحول . المقتدي
وحكى بعض الأتراك أنه مر بالمحول ، فرأى كثرة الموتى ، ورأى طفلة على باب بيت تنادي: هل من مسلم يؤجر في فيأخذني ، فإن أبي وأمي وأخوتي هلكوا في هذا البيت . قال: فنزلت فإذا بها في صدر أمها ميتة .
وحكى عبيد الله بن طلحة الدامغاني أن دربا من دروب التوثة مات جميع أهله فسد باب الدرب ، وهلك عامة أهل باب البصرة ، وأهل حربي ، خراسان ، والشام ، والحجاز ، وتعقبه موت الفجأة ، ثم أخذ الناس الجدري في أطفالهم ، ثم تعقبه موت الوحوش في البرية ، ثم تلاه موت الدواب والمواشي ، ثم قحط الناس ، وعزت الألبان واللحوم ، ثم أصاب الناس بعد ذلك الخوانيق ، والأورام ، والطحال ، وعم هذا الطاعون الفقراء بالأدوية والمال ، المقتدي بأمر الله ففرق ما لا يحصى ، وتقدم إلى أطباء المارستان بمراعاة جميع المرضى . وأمد
وفي جمادى الآخرة: وكان في خلال ذلك [ ص: 241 ] نار وتراب كالجبال يسير بين السماء والأرض ، فانجلت وقد هلك خلق كثير من الناس والبهائم ، ودخل اللصوص الحمامات فأخذوا ثياب الناس ، ونهبوا الأسواق ، وغرقت سفن ، وسقط رأس منارة هبت ريح سوداء ، وادلهمت السماء ، باب الأزج .
وفي شعبان: بدأت الفتن بين أهل الكرخ ومحال السنة ، ونهبت قطعة من نهر الدجاج ، وقلعت الأخشاب حتى من المساجد ، وضرب الشحنة خيما هناك حتى انكف الشر .
وفي يوم الخميس ثاني عشر شعبان: أبي بكر محمد بن المظفر الشامي في الديوان وولي قضاء القضاة . خلع على
قال عبد الله بن المبارك السقطي: لما توفي [محمد بن علي] الدامغاني وكان يحمل إليه أموال كثيرة من الأمصار ، وترشح ولده لقضاء القضاة ، وبذل مالا جزيلا فرأى أمير المؤمنين رفع الظنة عنه بقبول مال ، فعدل إلى الشامي ، فخرج التوقيع بولايته ، فاستبشر الناس .
وفي رمضان: تكلم بهراة متكلم فلسفي فأنكر عليه عبد الله الأنصاري ، فتعصب لذلك قوم فافتتنت هراة ، وخرج ذلك المتكلم إلى فوسنج بعد أن أثخن ضربا ، وأحرقت داره ، فلجأ إلى دار القاضي أبي سعد بن أبي يوسف مدرس فوسنج ، فأتبعه قوم من أصحاب الأنصاري إلى فوسنج وهجموا عليه ، ونالوا منه ومن أبي سعد ، فافتتنت فوسنج ، وسود باب مدرسة النظام ، وكانت فيها جراحات فبعث النظام فقبض على الأنصاري ، فأبعده عن هراة حتى خبت الفتنة ، ثم أعاده إلى هراة .
وفي ذي القعدة: ببغداد ، ودام يوما وليلة ، وبقي أثر ذلك السحاب في البرية إلى الصيف . جاء سيل لم يشاهد مثله منذ سنين ، فغرق عامة المنازل
وفي هذا الشهر: بدر الجمالي أمير مصر على ولده الأكبر وأربعة من [ ص: 242 ] الأمراء ، كان الولد قد واطأهم على قتل أبيه لينفرد بالملك ، فوشى بذلك خازن أحد الأمراء ، فأخذ الأربعة ، وضرب رقابهم وصلبهم ، وعفى أثر ولده ، فقال قوم: قطع عنه القوت فمات ، وقال قوم: غرقه ، وقال قوم: دفنه حيا ، وكان قبض بدر هذا قد نفى عن مصر والقاهرة كل من وقعت عليه سيماء العلم بعد أن قتل خلقا كثيرا من العلماء ، وقال:
العلماء أعداء هذه الدولة هم الذين ينبهون العوام على ما يقولونه ، ونفى مذكري أهل السنة ، وحمل الناس أن يكبروا خمسا على الجنائز ، وأن يسدلوا أيمانهم في الصلاة ، وأن يتختموا في الأيمان ، وأن يثوبوا في صلاة الفجر "حي على خير العمل" وحبس أقواما رووا فضائل الصحابة .
مصر في هذه السنة زيادة لم يعهدوها منذ سنين وكثر الخصب . وزاد نيل
وفي ذي الحجة عادت الفتن بين أهل الكرخ والسنة ، الكرخ ومن باب البصرة ، وعبر وأحرق شطر من الشحنة فأحرق من باب البصرة ، وقتل هاشميا فعبر أهل باب البصرة إلى الديوان ، ورجموا المتعيشين في الحريم ، وغلقوا الدكاكين ، فنفذ من منع الشحنة منهم ، وأصلح بينهم .
ومما حدث في هذه السنة: أن رجلا من الهاشميين يقال له: ابن الحب كانت له بنت فهويها جار لهم وهويته فافتضها ، فدخل أبوها فرآها على تلك الحال فغشي عليه ، ثم أفاق بعد زمان وجرد سيفا وعدا ليقتلها ، فهربت إلى جيرانها ، ثم ظفر بها فسألها عن الحال فاعترفت ، فمضى إلى الديوان في جماعة من الهاشميين يستنفر على الرجل ، فلم تثبت له بينة ولا أقر الرجل ، فحبس الشريف ابنته في بيت ، وسد عليها الباب ، وكان لها أخ يرمي إليها من روزنة البيت يسيرا من القوت فعلم أبوها فأخرجه من الدار ، فبقيت أياما ليس لها قوت فماتت .
ومما حدث: أن قوما وقعوا على حاج مصر فقتلوا خلقا كثيرا منهم ، وأخذوا أموالهم ، وعاد من سلم غير حاج ، بنقض ما علا من دور المقتدي بأمر الله بني الحرر [اليهود] وخرج توقيع من
[ ص: 243 ]
وسد أبوابا لهم كانت تقابل الجامع ، وأخذ عليهم غض الصوت بقراءة التوراة في منازلهم ، وإظهار الغيار على رءوسهم ، ونودي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والتقدم إلى والي كل محلة بالسد من الطائفة الصمدية ، وأريقت الخمور ، وكسرت الملاهي ، ونقضت دور أهل الفساد .