فلما كان يوم الخميس حوله إلى منزل المأمون أحمد بن أبي خالد ، فحبسه عنده ، ثم أخرجه حيث خرج إلى المأمون الحسن بن سهل بواسط ، فذكر أن الحسن كلمه فيه ، فرضي عنه وخلى سبيله ، وصيره عند أحمد بن أبي خالد ، وصير معه يحيى بن معاذ وخالد بن يزيد بن مرثد ، يحفظانه إلا أنه موسع عليه ، عنده أمه وعياله ، ويركب إلى دار ، وهؤلاء معه يحفظونه . المأمون
ولما دخل على قال له : هيه يا المأمون إبراهيم . فقال : يا أمير المؤمنين ، ولي الثأر محكم في القصاص ، والعفو أقرب للتقوى ، ومن تناوله الاغترار بما مد له من أسباب الشقاء أمكن عادية الدهر من نفسه ، وقد جعلك الله فوق كل ذي ذنب ، كما جعل كل ذي ذنب دونك ، فإن تعاقب فبحقك ، وإن تعف فبفضلك فقال : بل أعفو . فكبر ثم خر ساجدا .
أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال : أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت ، أخبرنا [ ص: 213 ] محمد بن عبد الواحد ، حدثنا محمد بن العباس الخزاز ، حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى المكي ، حدثنا محمد بن القاسم بن خلاد قال : لما طال على إبراهيم الاختفاء وضجر ، كتب إلى : ولي الثأر محكم في القصاص ، والعفو أقرب للتقوى ، ومن تناوله الاغترار بما مد له من أسباب الشقاء أمكن عادية الدهر من نفسه ، وقد جعل الله أمير المؤمنين فوق كل ذي عفو ، كما جعل كل ذي ذنب دونه ، فإن عفى فبفضله ، وإن عاقب فبحقه ، فوقع المأمون في قصته أمانه ، وقال : القدرة تذهب الحفيظة ، وكفى بالندم إنابة ، وعفو الله أوسع من كل شيء . ولما دخل المأمون إبراهيم على قال : المأمون
إن أكن مذنبا فحظي أخطأت فدع عنك كثرة التأنيب قل كما قال يوسف لبني يعقوب
لما أتوه : لا تثريب
وفي رواية : دخل عليه فأنشده :
ديني إليك عظيم وأنت أعظم منه
فخذ بحقك وإلا فاصفح بحلمك عنه
إن لم أكن في فعالي من الكرام فكنه
أذنبت ذنبا عظيما وأنت للعفو أهل
فإن عفوت فمن وإن جزيت فعدل
قال : يا أمير المؤمنين إن قتلته وجدت مثلك قد قتل مثله كثيرا ، وإن عفوت عنه لم [ ص: 214 ] تجد مثلك عفا عن مثله ، فأيما أحب إليك أن تفعل فعلا تجد لك فيه شريكا أو تنفرد فيه بالفضل . فأطرق طويلا ثم رفع رأسه فقال : أعد ما قلت يا أحمد . فأعاده فقال : بل ننفرد بالفضل ولا رأي لنا في الشركة فكشف إبراهيم القناع عن رأسه وكبر تكبيرة عالية وقال : عفا والله أمير المؤمنين . فقال : لا بأس عليك يا عم ، وأمر بحبسه في دار أحمد بن أبي خالد ، فلما كان بعد شهر أحضره وقال : اعتذر من ذنبك ، فقال :
ذنبي أجل من أن أتفوه فيه بعذر ، وعفو أمير المؤمنين أعظم من أن أنطق معه بشكر ولكن أقول :
يا خير من حملت يمانية به بعد الرسول لآيس أو طامع
وأبر من عبد الإله على التقى عينا وأقوله بحق صادع
تفديك نفسي أن تضيق بصالح والعفو منك بفضل حلم واسع
ملئت قلوب الناس منك مخافة وتظل تكلأهم بقلب خاشع
وعفوت عمن لم يكن عن مثله عفو ولم يشفع إليك بشافع
ورحمت أطفالا كأفراخ القطا وحنين والدة بقلب جازع
الله يعلم ما أقول وإنها جهد الأمية من حنيف راكع
ما إن عصيتك والغواة تقودني أسنانها إلا بنية طائع
لم أدر أن لمثل جرمي غافرا فوقفت أنظر أي حتف صارعي
كم من يد لك لم تحدثني بها نفسي إذا لاكت إلي مطامعي
إن أنت جدت بها علي تكن لها أهلا وإن تمنع فأعدل مانع
إن الذي قسم المكارم حازها في صلب آدم للإمام السابع
رددت مالي ولم تبخل علي به وقبل ردك مالي قد حقنت دمي
وأبت عنك وقد خولتني نعما هما الحياتان من موت ومن عدم
فلو بذلت دمي أبغي رضاك به والمال حتى أسل النعل من قدمي
ما كان ذاك سوى عارية رجعت إليك لو لم تعرها كنت لم تلم
وقام علمك بي واحتج عندك لي مقام شاهد عدل غير متهم
قال : قلت إن قرابته قريبة ورحمه ماسة ، وقد ابتدأناه بأمر ينبغي أن نستنه ، فإن نكث فالله مغير ما به ، فقال إبراهيم : إما أن يكونا نصحاك فقد لعمر الله فعلا ، ولكن أبيت إلا ما أنت أهله ، فدفعت ما خفت بما رجوت فقال : مات حقدي بحياة عدوك وقد عفوت عنك ، وأعظم من عفوي أنني لم أجرعك مرارة الشافعين . المأمون
أنبأنا أبو بكر بن عبد الباقي قال : أنبأنا أبو القاسم على بن المحسن ، عن أبيه قال : أخبرني ، حدثنا أبو الفرج الأصفهاني حدثني علي بن سليمان الأخفش محمد بن يزيد المبرد ، حدثنا قال . لما دخل الفضل بن مروان على [ ص: 216 ] إبراهيم بن المهدي كلمه بكلام كان المأمون كلم به سعيد بن العاص في سخطة سخطها عليه ، فاستعطفه به ، وكان معاوية بن أبي سفيان يحفظ الكلام ، فقال المأمون هيهات يا المأمون إبراهيم ، هذا كلام سبقك به فحل بني العاص وقارحهم وخاطب به سعيد بن العاص ، فقال له معاوية إبراهيم : يا أمير المؤمنين ، وأنت أيضا إن عفوت فقد سبقك فحل بني حرب وقارحهم إلى العفو ، فلا يكن حالي عندك في ذاك أبعد من حال سعيد من ، فأنت أشرف منه وأنا أشرف من معاوية سعيد ، وأقرب إليك من سعيد إلى معاوية ، وإن أعظم الهجنة أن يسبق أمية هاشما إلى مكرمة قال : صدقت يا عم ، قد عفوت عنك .