فمن الحوادث فيها :
قتل الرشيد جعفر بن يحيى [بن خالد ] ، وإيقاعه بالبرامكة .
فأما سبب غضبه على جعفر الذي قتله لأجله فقد اختلف فيه ، وفي سبب تغيره على البرامكة .
فقال بختيشوع : إني لقاعد في مجلس إذ طلع الرشيد ، وكان يدخل بلا إذن ، فلما صار بالقرب من يحيى بن خالد وسلم عليه رد عليه ردا ضعيفا ، فعلم الرشيد يحيى أن أمرهم قد تغير ، ثم أقبل علي فقال : يا بختيشوع ، يدخل عليك في منزلك أحد بلا إذنك ؟ فقلت : لا ، ولا يطمع في ذلك ، فقال : ما بالنا يدخل علينا بلا إذن . فقام الرشيد يحيى فقال : يا أمير المؤمنين قدمني الله قبلك ، والله ما ابتدأت ذلك الساعة ، وما هو إلا شيء خصني به أمير المؤمنين ، ورفع به ذكري حتى إن كنت لأدخل وهو في فراشه ، وما علمت أن أمير المؤمنين كره ما كان يحب ، وإذ علمت فإني أكون في الطبقة الثانية من أهل الإذن والثالثة إن أمرني سيدي بذلك . قال : فاستحى ، وكان من أرق الخلفاء وجها ، وعيناه في الأرض ، ما يرفع طرفه . ثم قال : ما أردت ما تكره ، ولكن الناس يقولون . وخرج يحيى .
[ ص: 127 ] وقال ثمامة بن أشرس : رفع محمد بن الليث رسالة إلى يعظه فيها ويقول : إن الرشيد لا يغني عنك من الله شيئا ، وقد جعلته فيما بينك وبين الله ، فكيف أنت إذا وقفت بين يدي الله فسألك عما عملت في عباده وبلاده ، فقلت : استكفيت يحيى بن خالد يحيى أمور عبادك . أتراك تحتج بحجة يرضاها . مع كلام فيه توبيخ وتقريع ، فدعى الرشيد يحيى وقد تقدم إليه خبر الرسالة ، فقال : تعرف محمد بن الليث ؟ قال : نعم . قال : فأي الرجال هو ؟ قال : متهم على الإسلام . فأمر به ، فوضع في الحبس دهرا ، فلما تنكر للبرامكة ذكره فأمر بإخراجه ، فأحضر فقال له بعد مخاطبة طويلة : يا الرشيد محمد ، أتحبني ؟ قال : لا والله يا أمير المؤمنين . قال : تقول هذا ! ؟ قال : نعم ، وضعت رجلي في الأكبال ، وحلت بيني وبين العيال بلا ذنب أتيت ، ولا حدث أحدثت ، سوى قول حاسد يكيد الإسلام وأهله ، ويحب الإلحاد وأهله ، فكيف أحبك ؟ قال : صدقت . وأمر بإطلاقه ، ثم قال : يا محمد ، أتحبني ؟ قال : لا والله يا أمير المؤمنين ، ولكن قد ذهب ما في قلبي . فأمر أن يعطى مائة ألف درهم ، فأحضرت فقال : يا محمد ، أتحبني ؟ قال : أما الآن فنعم ، قد أنعمت علي ، وأحسنت إلي . قال : انتقم الله ممن ظلمك ، وأخذ لك بحقك ممن بعثني عليك . قال : فقال الناس في البرامكة ، فأكثروا ، وكان ذلك أول ما ظهر من تغير حالهم .
وقال محمد بن الفضل مولى سليمان بن أبي جعفر : دخل بعد ذلك إلى يحيى بن خالد ، فقام الغلمان إليه فقال الرشيد لمسرور [الخادم ] : مر الغلمان أن لا يقوموا إليه إذا دخل . فدخل فلم يقم إليه أحد ، فاربد لونه ، وكان الغلمان والحجاب بعد ذلك إذا رأوه أعرضوا عنه ، فكان ربما استسقى الشربة فلا يسقونه . الرشيد
وقال أبو محمد اليزيدي : من قال إن قتل الرشيد جعفر بن يحيى بغير سبب [ ص: 128 ] يحيى بن عبد الله بن حسن فلا تصدقه ، وذلك أن دفع الرشيد يحيى إلى جعفر فحبسه ، ثم دعى به ليلة من الليالي فسأله عن شيء من أمره فأجابه إلى أن قال له : اتق الله في أمري ولا تتعرض أن يكون خصمك غدا محمد صلى الله عليه وسلم ، فوالله ما أحدثت حدثا ، ولا آويت محدثا . فرق له وقال : اذهب حيث شئت من بلاد الله . قال : وكيف أذهب ولا آمن أن أؤخذ بعد قليل . فأرد إليك أو على غيرك . فوجه إليه من أداه إلى مأمنه . وبلغ الخبر من عين كانت له عليه من خاص خدمه ، فدخل على الفضل بن الربيع فأخبره ، فأراه أنه لا يعبأ بخبره وقال : ما أنت وهذا ، لا أم لك ، فلعل ذلك عن أمري . فانكسر الرشيد الفضل ، وجاءه جعفر فدعا بالغداء فأكلا ، وجعل يلقمه ويحادثه ، إلى أن كان آخر ما كان بينهما أن قال : ما فعل يحيى بن عبد الله ؟ قال : بحاله يا أمير المؤمنين في الحبس الضيق والأكبال الثقيلة . فقال : بحياتي ! فأحجم جعفر ، وكان من أرق الخلق ذهنا ، وأصحهم فكرا ، فهجس في نفسه أنه قد علم بشيء من أمره ، فقال : لا وحياتك يا سيدي ، ولكن أطلقته وعلمت أنه لا حياة به ، ولا مكروه عنده . قال : نعم ما فعلت ، ما عدوت ما كان في نفسي . فلما خرج أتبعه بصره حتى كاد يتوارى عن وجهه ، ثم قال : قتلني الله بسيف الهدى على عمل الضلالة إن لم أقتلك . فكان من أمره ما كان .
وقال إدريس بن بدر : عرض رجل فقال : نصيحة ، فقال للرشيد لهرثمة : خذ إليك الرجل وسله عن نصيحته . فسأله فأبى أن يخبره وقال : هي سر من أسرار الخليفة . فأخبر هرثمة فقال له : لا تبرح بالباب حتى أفرغ له . فلما كان في الهاجرة ، وانصرف من كان عنده ، دعا به ، فقال : أخلني . فالتفت الرشيد هارون إلى بنيه فقال : انصرفوا يا فتيان . فوثبوا ، وبقي خاقان وحسين على رأسه ، فنظر إليهما الرجل فقال : تنحيا عنا . ففعلا ، ثم أقبل على الرجل فقال : هات ما عندك . فقال : على أن تؤمنني . قال : على [ ص: 129 ] أن أؤمنك وأحسن إليك . قال : كنت بحلوان في خان من خاناتها ، فإذا أنا بيحيى بن عبد الله في دراعة صوف غليظة وكساء صوف أخضر غليظ ، وإذا معه جماعة ينزلون إذا نزل ، ويرحلون إذا رحل ، ويكونون منه برصد ، يوهمون من رآهم أنهم لا يعرفونه وهم أعوانه ، ومع [كل ] واحد منهم منشور يأمن له إن عرض له . قال : تعرف يحيى بن عبد الله ؟ قال : أعرفه قديما ، وذلك الذي حقق معرفتي به بالأمس . قال : فصفه . قال : مربوع ، أسمر ، رقيق البشرة ، أجلح ، حسن العينين ، عظيم البطن . قال : صدقت هو ذلك . قال : فما سمعته يقول ؟ قال : ما سمعته يقول شيئا غير أني رأيته يصلي ، ورأيت غلاما من غلمانه أعرفه قديما جالسا على باب بالخان ، فلما فرغ من صلاته أتاه بثوب غسيل ، فألقاه في عنقه ، ونزع الجبة الصوف ، فقال له : أحسن الله جزاءك ، وشكر سعيك ، فمن أنت ؟ قال : رجل من أبناء هذه الدولة ، وأصلي من مرو ، ومولدي مدينة السلام . قال : فمنزلك بها ؟ قال : نعم . فأطرق مليا ، ثم قال : كيف احتمالك لمكروه تمتحن به في طاعتي ؟ قال : أبلغ من ذلك حيث أحب أمير المؤمنين . قال : كن بمكانك حتى أرجع . فدخل حجرة كانت خلف ظهره ، فأخرج كيسا فيه ألفا دينار ، فقال : خذ هذه ودعني وما أدبر فيك . فأخذها وضم عليها ثيابه ، ثم قال : يا غلام . فأجابه خاقان وحسين ، فقال : اصفعا ابن اللخناء ، فصفعاه نحوا من مائة صفعة ، ثم قال : أخرجاه إلى من بقي في الدار وعمامته في عنقه ، فقولا : هذا جزاء من يسعى ببطانة أمير المؤمنين وأوليائه ! ففعلا ذلك وتحدثوا بخبره ، ولم يعلم بحال الرجل أحد ، ولا بما ألقى إلى حتى كان من أمر البرامكة ما كان . الرشيد
[ ص: 130 ] أخبرنا قال : أخبرنا ابن ناصر المبارك بن عبد الجبار قال : أخبرنا أبو محمد الجوهري قال : أخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال : حدثنا عبد الواحد بن محمد الخصيبي قال : حدثني أبو الفضل ميمون بن مهران قال : حدثتني أمية البرمكية قالت : الناس يكثرون في قصة البرامكة ، وأوكد الأسباب فيما نالهم أن جعفر بن يحيى كان اشترى جارية [مغنية ] يقال لها "فتينة " لم يكن لها نظير في الدنيا في حسن الخلق وسجاة وطيبة ، وكان إذا سمعها بكى ما دامت تغني ، وكان غيره من الحذاق يسلمون لها ، وكان شراؤها على جعفر مائة ألف دينار ، فطلبها منه ابن جامع فلم يدفعها إليه ، فلم يكن إلا قليلا حتى نزل بهم ما نزل ، فأخذت وأخذ جميع من معها من الجواري والعوامل ، ثم جلس لنا وأدخلنا عليه وفي يد كل واحدة منا ما تعمل به ، فأقبل يأمر واحدة واحدة ، فتغني المغنية ، وتزمر الزامرة ، حتى بلغ إلى الرشيد "فتينة " فقال لها : غني . فأمسكت ، فقلنا لها ونحن نرعد : ويحك غني ! فأسبلت دمعها وقالت : أما بعد السادة فلا . فحثثناها على ذلك فأبت ، فنظر إلى أقبح من على رأسه وهو الرشيد الحارث بن بسيحر وقال : خذها ، قد وهبتها لك . فأخذ بيدها ومضت معه ، فلما ولت دعا الحارث وأسر إليه شيئا علمناه فيما بعد ، أمره أن لا يقربها ، إذ كان إنما أراد كسرها ، ثم أمر بصرفنا فانصرفنا ، ومكثنا أياما ، ثم ذكرنا فأمر بإحضارنا على السبيل التي حضرناها [أولا ] ، فلما وقفنا بين يديه قال للحارث : ما فعلت فلانة ؟ يعني : فتينة . قال : [ ص: 131 ] هي قبلي يا أمير المؤمنين . قال : هاتها . فأحضرها وجلست وجلسنا ، فأخذنا في شأننا وقال : هيه غني . فعصرت عينيها ثم بكت وقالت : أما بعد السادة فلا . فغضب وقال : سيف ونطع ، ثم قال لها : غني . فردت مثل قولها الأول ، وأسبلت الدموع ، وذهبت عقولنا نحن ، ووقعت علينا الرعدة من شدة الخوف ، فقال للسياف : انظر إلى يدي ، فإذا عقدت لك بالخنصر اثنين فأمسك ، فإذا عقدت بالوسطى ثلاثا فاضرب . الرشيد
فأخذ السياف السيف ووقف وراءها شاهرا به . فقال لها : غني : فقالت : أما بعد السادة فلا ، وهي تبكي وقد علا بكاؤها ، فعقد بيده واحدة ، ثم قال لها ثانية فقالت القول الأول ، فعقد اثنين ، ورفع يديه يريها السياف وأقبل يحرك الوسطى ويقول لها : غني . وأقبلنا عليها نناشدها في نفسها وفينا ، فاندفعت تغني : الرشيد
لما رأيت الديار قد درست أيقنت أن النعيم لم يعد
فوثب إليها ، فأخذ العود من يدها ، وأقبل يضرب به وجهها ورأسها حتى تفتت ، وأقبلت الدماء ، وتطايرنا نحن ، وحملت من بين يديه وقيدة ، فمكثت ثلاثا وماتت . الرشيد
وروى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري سببا عجبا في خبر البرامكة في هلاك جعفر قال : كان لا يصبر عن الرشيد جعفر وأخته عباسة بنت المهدي ، وقال لجعفر : أزوجكها ليحل لك النظر إليها ، ولا تمسها . فكانا يحضران مجلسه ، ثم يقوم عن مجلسه ويخليهما ، فيقوم إليها جعفر فيجامعها ، فحبلت منه ، فولدت غلاما ، وخافت من ، فلم يزل الأمر مستورا ، ووجهت المولود مع خواص لها من [ ص: 132 ] مماليكها إلى الرشيد مكة ، فلم يزل الأمر مستورا عن حتى وقع بين عباسة وبعض جواريها شر ، فأنهت أمرها [وأمر الصبي ] إلى الرشيد ، وأخبرت بمكان الصبي ، ومع من هو من جواريها ، وما معه من الحلي الذي كانت زينته بها أمه ، فلما حج الرشيد هارون هذه الحجة أرسل إلى الموضع من يأتيه بالصبي وحواضنه ، فلما حضرن سأل اللواتي معهن الصبي ، فأخبرنه بمثل القصة التي أخبرته بها الرافعة على عباسة ، وكان ذلك سبب ما نزل بهم .
وقد ذكر أن [أبو بكر ] الصولي علية بنت المهدي قالت : ما رأيت لك يوم سرور منذ قتلت جعفرا ، فلأي شيء قتلته ؟ فقال : لو علمت أن قميصي يعلم السبب الذي قتلت له للرشيد جعفرا لأحرقته . وكان قد كتب إلى يحيى بن خالد جعفر : إني إنما أهملتك ليعثر الزمان بك عثرة يعرف بها أمرك ، وإن كنت أخشى أن تكون التي لا سوى لها . وقال يحيى : يا أمير المؤمنين ، أنا والله أكره مداخلة جعفر معك ، ولست آمن أن ترجع العاقبة في ذلك علي منك ، فلو أعفيته واقتصرت به على ما يتولاه من جسيم أعمالك كان ذلك واقعا بموافقتي . قال للرشيد : يا أبت ، ليس بك ذلك ، ولكن تريد أن تقدم عليه الفضل . الرشيد
وقد أنبأنا محمد بن عبد الباقي قال : أنبأنا علي بن المحسن التنوخي ، عن أبيه قال : حدثني أبو الحسين علي بن هشام قال : سمعت الحسن بن عيسى يقول : الشره قتل جعفر بن يحيى . فقيل له : إن الناس يقولون إن ذنبه أمر بعض أخوات . فقال : هذا من رواية الجهال من كان يجسر على الرشيد بهذا إنما كان جعفر قد حاز ضياع الدنيا لنفسه ، وكان الرشيد إذا سافر لا يمر بضيعة أو بستان إلا قيل : هذا الرشيد لجعفر . [ ص: 133 ] فما زال ذلك في نفسه ، ثم جنى على نفسه بأن وجه برأس بعض الطالبيين في يوم نيروز من غير أن يكون قد أمره بقتله ، فاستحل بذلك دمه .
وقيل : بل أرادت البرامكة إظهار الزندقة وإفساد الملك فقتلهم لذلك .
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك ، ومحمد بن ناصر قالا : أخبرنا المبارك بن عبد الجبار ، أخبرنا أبو عبد الله النصيبي ، أخبرنا أبو القاسم إسماعيل بن سويد ، حدثنا قال : حدثني أبي ، حدثنا أبو بكر الأنباري عبد الله بن عبد الرحمن المدائني قال : قال أبو زكار الأعمى : كنت عند جعفر البرمكي في الليلة التي قتل فيها وهو يغني بهذا الشعر :
فلا تبعد فكل فتى سيأتي عليه الموت يبكر أو يغادي
وكل ذخيرة لا بد يوما وإن بقيت تصير إلى نفاد
فلو فوديت من حدث الليالي فديتك بالطريف وبالتلاد
فقلت : يا سيدي ، ممن أخذت هذا الشعر . قال : من أحسن شعرا من حكم الوادي . فما قام عن موضعه حتى جاء مسرور غلام فأخذ رأسه . الرشيد
قال علماء السير : لما انصرف عن الحج في سنة ست وثمانين قال مسرور الخادم : سمعت الرشيد يقول في الطواف : اللهم إنك تعلم أن الرشيد جعفر بن يحيى قد وجب عليه القتل ، وأنا أستخيرك في قتله فخر لي . قالوا : ثم عاد إلى الأنبار وبعث إليه بمسرور وحماد بن سالم ، والمغني يغني :
فلا تبعد فكل فتى سيأتي عليه الموت يبكر أو يغادي
قال مسرور : الذي جئت فيه من ذاك قد والله طرقك ، أجب أمير المؤمنين . قال : فوقع على رجلي يقبلها ويقول : حتى أدخل فأوصي . فقلت : أما الدخول فلا سبيل إليه ، ولكن أوص بما شئت . فتقدم في وصيته بما أراد ، وقال : كل مال لي فهو صدقة ، وكل [ ص: 134 ] عبد لي فهو حر ، وكل من لي عنده وديعة أو حق فهو في حل . ثم أتت رسل تستحث مسرورا ، فأخرجه إخراجا عنيفا ، حتى أتى به المنزل الذي فيه الرشيد ، فحبسه وقيده بقيد حمار ، وأخبر الرشيد فقال : ائتني برأسه . فجاء إلى جعفر وأخبره ، فقال : الله الله ، والله ما أمرك بما أمرك به إلا وهو سكران ، فدافع بأمري [حتى أصبح ] أؤامره في ثانية . فعاد ليؤامره ، فقال : يا ماص بظر أمه ائتني برأس جعفر . فرجع إليه فأخبره فقال : عاوده ثالثة . فأتاه فحذفه بعمود وقال : نفيت من الرشيد إن جئتني ولم تأتني برأسه لأرسلن إليك من يأتيني برأسك ، فأتاه برأسه . المهدي
وكان قتله ليلة السبت أول ليلة من صفر سنة سبع وثمانين بأرض الأنبار ، وهو ابن سبع وثلاثين سنة ، ثم أمر بنصب رأسه على الجسر ، وتقطيع بدنه ، وصلب كل قطعة على جسر ، فلم يزل كذلك حتى مر عليه حين خروجه إلى الرشيد خراسان ، فقال : ينبغي أن يحرق هذا . فأحرق .
قال علماء السير : وجه في ليلة قتل الرشيد جعفر من أحاط بيحيى بن خالد وجميع ولده ومواليه ومن [كان ] منهم بسبيل ، فلم يفلت منهم أحد كان حاضرا ، وحول الفضل بن يحيى ليلا فحبس في ناحية من منازل ، وحبس الرشيد في منزله ، وأخذ ما وجد لهم من مال وضياع ومتاع وغير ذلك ، ومنع أهل العسكر من أن يخرج منهم خارج إلى مدينة السلام أو إلى غيرها ، ووجه من ليلته رجاء الخادم إلى يحيى بن خالد الرقة في قبض أموالهم ، وما كان من رقيقهم ومواليهم وحشمهم ، وفرق الكتب من ليلته في جميع الغلمان في نواحي البلدان والأعمال بقبض أموالهم وأخذ وكلائهم فلما أصبح كتب إلى بتوجيه جثة جعفر إلى مدينة السلام ، ونصب رأسه على [ ص: 135 ] الجسر الأوسط ، وقطع جثته وصلب كل قطعة على الجسر الأعلى والجسر الأوسط . ففعل السندي ذلك ، وأمر بالنداء في جميع البرامكة أن لا أمان لمن أمنهم أو آواهم إلا السندي محمد بن خالد وولده وأهله وحشمه ، فإنه استثناهم لما ظهر من نصيحة محمد له ، وعرف براءته مما دخل فيه غيره من البرامكة ، وخلى سبيل يحيى قبل شخوصه مع العم ، ووكل بالفضل ، ومحمد ، وموسى ، وأبي المهدي صهرهم حفظة من قبل هرثمة بن أعين إلى أن وافى بهم الرقة ، وأتى بأنس بن أبي شيخ صبيحة الليلة التي قتل فيها جعفر فأمر بقتله ، وكان من أصحاب البرامكة ، وكان قد رفع [إليه ] عنه أنه على الزندقة .
وقيل ليحيى بن خالد أن قد قتل ابنك ، فقال : كذلك يقتل ابنه . الرشيد
أنبأنا محمد بن أبي طاهر البزاز ، أنبأنا علي بن المحسن التنوخي ، عن ابنه قال : حدثني علي بن هشام ، أخبرنا علي بن عيسى قال : حدثنا أبي ، حدثنا داود بن الجراح قال : قال لي قال : كنت أعمل في أبواب ضياع الفضل بن مروان الحساب ، فنظمت في حساب الرشيد ، فوجدت ثمن هدية دفعتين من مال السنة التي نكب فيها البرامكة أهداهما إلى الرشيد جعفر بن يحيى بضعة عشر ألف دينار ، وفيه بعد شهور من هذه الهدية قد بينا الحساب لثمن نفط وحب قطن ابتيع فأحرق به جثة جعفر بن يحيى بضعة عشر قيراطا ذهبا .
وقد ذكر : أن [أبو بكر ] الصولي كان يقول ، لعن الله من أغراني بالبرامكة ، ما رأيت رخاء بعدهم ، ولا وجدت لذة راحة . الرشيد
قال : وحدثنا الصولي الغلابي ، حدثنا العتبي قال : قال لي بعد قتل [ ص: 136 ] البرامكة : وددت والله إني شوطرت عمري ، وغرمت نصف ملكي ، وأني تركت البرامكة على أمرهم . الرشيد
أخبرنا القزاز ، أخبرنا أحمد بن علي قال : أخبرني الأزهري ، أخبرنا محمد بن العباس قال : أخبرنا أبو بكر محمد بن خلف قال : أخبرني أبو النضر هشام بن سعيد الزهري قال : أخبرني أبي قال : لما الرشيد جعفر بن يحيى وقف صلب الرقاشي الشاعر فقال :
أما والله لولا خوف واش وعين للخليفة لا تنام
لطفنا حول جذعك واستلمنا كما للناس بالحجر استلام
فما أبصرت قبلك يا ابن يحيى حساما فله السيف الحسام
على اللذات والدنيا جميعا ودولة آل برمك السلام
فقيل للرشيد ، فأمر به فأحضر فقال له : ما حملك على ما فعلت ؟ قال : تحركت نعمته في قلبي فلم أصبر . قال : كم أعطاك ؟ قال : كان يعطيني كل سنة ألف دينار . قال : فأمر له بألفي دينار .
أخبرنا القزاز أخبرنا [ . قال : أخبرنا أحمد بن علي ] الخطيب محمد بن عبد الواحد [بن علي ] البزاز قال ، أخبرنا أبو سعيد الحسن بن عبد الله السيرافي قال : أخبرنا قال : حدثنا محمد بن أبي الأزهر قال : حدثني عمي الزبير بن بكار مصعب بن عبد الله قال : لما قتل جعفر بن يحيى وصلب بباب الجسر رأسه ، وفي الجانب الغربي جسده ، وقفت امرأة على حمار فاره ، فنظرت إلى رأسه فقالت بلسان فصيح : والله لئن [ ص: 137 ] صرت اليوم آية لقد كنت في المكارم غاية ، ثم أنشأت تقول :
لما رأيت السيف خالط جعفرا ونادى مناد للخليفة في يحيى
بكيت على الدنيا وأيقنت أنما قصارى الفتى يوما مفارقة الدنيا
وما هي إلا دولة بعد دولة تخول ذا نعمى وتعقب ذا بلوى
إذا أنزلت هذا منازل رفعة من الملك حطت ذا إلى الغاية القصوى
ثم إنها حركت الحمار الذي تحتها وكأنها [كانت ] ريحا لم يعرف لها أثر .