604 - جرير بن عطية بن الخطفي ، والخطفي لقب ، واسمه حذيفة بن بدر بن سلمة بن كلب بن يربوع بن مالك بن حنظلة ، أبو جزرة الشاعر :
ولد جرير لسبعة أشهر ، وعمر نيفا وثمانين سنة ، وكان له ثمانية ذكور وابنتان . وهو والفرزدق والأخطل مقدمون على شعراء الإسلام الذين لم يدركوا الجاهلية ، والناس مختلفون أيهم المقدم ، وكل من تعرض لمضاهاتهم من الشعراء افتضح وسقط ، على أن الأخطل إنما دخل بين جرير في آخر أمرهما وقد أسن وليس من نجارهما . والفرزدق
وكان يشبه أبو عمرو الشيباني جريرا بالأعشى ، والفرزدق بزهير ، والأخطل بالنابغة .
قال أبو عبيدة : ويحتج من قدم جريرا بأنه كان أكثرهم فنون شعر ، وأسهلهم ألفاظا ، وأرقهم تشبيبا ، وكان دينا عفيفا .
وقال بعض العرب: الشعر أربعة أصناف: فخر ، ومدح ، ونسيب ، وهجاء .
وفي كلها غلب جرير .
قال في الفخر:
إذا غضبت عليك بنو تميم حسبت الناس كلهم غضابا
وقال في المديح:ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح
إن العيون التي في طرفها مرض قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
فغض الطرف إنك من نمير فلا كعبا بلغت ولا كلابا
وكان جرير يهاجي فلقيه في طريق الحج ، فقال الفرزدق ، والله لأفسدن عليه إحرامه ، فقال له: الفرزدق:
فإنك لاق بالمشاعر من منى فخارا فخبرني بمن أنت فاخر
أخبرنا قال : أخبرنا ابن ناصر ، محمد بن [أبي] منصور ، قال: أخبرنا جعفر بن يحيى الحكاك ، قال: أخبرنا القاضي أبو الحسن محمد بن علي بن صخر ، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن عدي بن جزء ، قال: حدثنا سليمان بن إبراهيم الهاشمي ، قال: أخبرنا محمد بن إسماعيل بن الهادي ، عن أبي يعقوب بن السكيت ، عن أبيه ، قال:
ذكروا أن جرير بن الخطفي دخل على فقال له: يا أمير المؤمنين إني قد مدحتك بثلاثة أبيات ما قالت العرب مثلها ، ولست أنشدك كل بيت إلا بعشرة آلاف ، قال: هاتها لله أبوك ، فأنشأ جرير يقول: عبد الملك بن مروان
رأيتك أمس خير بني معد وأنت اليوم خير منك أمس
[ ص: 146 ] ونبتك في المنابت خير نبت وغرسك في المغارس خير غرس
وأنت غدا تزيد الضعف ضعفا كذاك تزيد سادة عبد شمس
إذا قيل من للجود والفضل والندى فناد بأعلى الصوت يحيى بن معبد
وقد ذكرنا أن هذه الأبيات السينية للأعشى ، وأنه أنشدها عبد الملك .
ومن مستحسن شعر جرير :
إلى الله أشكو أن بالغور حاجة وأخرى إذا أبصرت نجدا بدا ليا
إذا اكتحلت عيني بعينك لم تزل بخير وجلى غمرة عن فؤاديا
فقولا لواديها الذي نزلت به أوادي ذي القيصوم أمرعت واديا
فيا حسرات القلب في إثر من يرى قريبا ويلفي [خيره] منك قاصيا
فأنت أبي ما لم تكن لي حاجة فإن عرضت أيقنت أن لا أباليا
وإني لأستحيي أخي أن أرى له علي من الفضل الذي لا يرى ليا
بان الخليط ولو طوعت ما بانا وقطعوا من حبال الوصل أقرانا
حي المنازل إذ لا نبتغي بدلا بالدار دارا ولا الجيران جيرانا
يا أم عمرو جزاك الله مغفرة ردي علي فؤادي كالذي كانا
قد خنت من لم يكن يخشى خيانتكم ما كنت أول موثوق به خانا
[ ص: 147 ] أبدل الليل لا تسري كواكبه أم طال حتى حسبت النجم حيرانا
إن العيون التي في طرفها مرض قتلننا ثم لا يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله أركانا
أتبعتهم مقلة إنسانها غرق هل ما ترى تارك للعين إنسانا
يا حبذا جبل الريان من جبل وحبذا ساكن الريان من كانا
هل يرجعن وليس الدهر مرتجعا عيش لنا طالما احلولى وما لانا
ما للمنازل لا يجبن حزينا أصممن أم قدم المدى فبلينا
إن الذين تحملوا لك هيجوا وشلا بعينك ما يزال معينا
غيضن من عبراتهن وقلن لي ماذا لقيت من الهوى ولقينا
ولقد تسقطني الوشاة فصادفوا حصرا بسرك يا أميم ضنينا
أرعى كما يرعى بغيب سركم فإذا بخلت بنايل فعدينا
قد هاج ذكرك والصبابة والهوى داء تمكن في الفؤاد مكينا
لما تذكرت بالديرين أرقني صوت الدجاج وقرع بالنواقيس
فقلت للركب إذ جد الرحيل بنا ما بعد يبرين من باب الفراديس
هل دعوة من جبال الثلج مسمعة أهل الإياد وحيا بالنباريس
يخزى الوشيظ إذا قال الصميم لهم عدوا الحصى ثم قيسوا بالمقاييس
وابن اللبون إذا ما لز في قرن لم يستطع صولة البزل القناعيس
قد جربت عركي في كل معترك غلب الأسود فما بال الضغابيس
605 - الحجاج العابد :
أخبرنا المحمدان ابن عبد الملك وابن ناصر ، قالا: أخبرنا أحمد بن الحسين بن خيرون ، قال: قرئ على أبي القاسم عبد الملك بن بشران وأنا أسمع ، أخبركم محمد بن الحسين الآجري ، قال: أخبرنا الفضل بن العباس بن يوسف الشكلي ، قال:
حدثنا محمد بن إسحاق السلمي ، قال: حدثنا محمد بن صالح التميمي ، قال: قال أبو عبد الله مؤذن مسجد بني جراد :
جاورني شاب فكنت إذا أذنت للصلاة وافى كأنه نقرة في قفاي ، فإذا صليت صلى ثم لبس نعليه ثم دخل إلى منزله ، فكنت أتمنى أن يكلمني أو يسألني حاجة ، فقال لي ذات يوم: يا أبا عبد الله ، عندك مصحف تعيرني أقرأ فيه ، فأخرجت إليه مصحفا ورفعته إليه فضمه إلى صدره ، ثم قال: ليكونن [اليوم] لي ولك شأن ، ففقدته ذلك اليوم ، فلم أره يخرج ، فأقمت للمغرب فلم يخرج ، وأقمت لعشاء الآخرة فلم يخرج ، فساء ظني ، فلما صليت العشاء الآخرة جئت إلى الدار التي هو فيها ، فإذا فيها دلو ومطهرة ، وإذا على بابه ستر ، فدفعت الباب فإذا به ميت والمصحف في حجره ، فأخذت المصحف من حجره ، واستعنت بقوم على حمله حتى وضعناه على سريره ، وبقيت أفكر ليلتي من أكلم حتى يكفنه ، فأذنت للفجر بوقت ، ودخلت المسجد لأركع ، فإذا بضوء في القبلة ، فدنوت منه فإذا كفن ملفوف في القبلة ، فأخذته وحمدت الله عز وجل وأدخلته البيت وخرجت ، فأقمت الصلاة ، فلما سلمت إذا عن يميني ثابت البناني ومالك ابن دينار ، وحبيب الفارسي ، وصالح المري ، فقلت: يا إخواني ، ما غدا بكم؟ قالوا لي: مات في جوارك الليلة أحد ، قلت: مات شاب كان يصلي معي الصلوات ، فقالوا لي: أرناه ، فلما دخلوا عليه كشف مالك بن دينار عن وجهه ، ثم قبل موضع سجوده ، ثم قال: بأبي أنت يا حجاج إذا عرفت في موضع تحولت منه إلى موضع غيره ، ثم أخذوا في غسله وإذا مع كل واحد منهم كفن ، فقال واحد منهم: أنا أكفنه ، فلما طال ذلك منهم قلت لهم: إني فكرت في أمره الليلة فقلت: من أكلم حتى يكفنه ، فأتيت المسجد فأذنت ثم دخلت لأركع فإذا كفن ملفوف لا أدري من وضعه ، فقالوا: يكفن في ذلك [ ص: 149 ] الكفن ، فكفناه وأخرجناه ، فما كدنا نرفع جنازته من كثرة من حضره من الجمع .
606 - همام بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم ، واسم دارم بحر بن مالك ، أبو فراس ، وهو الفرزدق الشاعر :
شبه وجهه بالخبزة ، وهي فرزدقة ، فقيل: وكان جده الفرزدق ، صعصعة يستحيي الموءودات في الجاهلية فجاء الإسلام وقد استحيا ثلاثمائة . وقد سبق ذكره .
وقال الفرزدق:
وجدي الذي منع الوائدين وأحيا الوئيد فلم يوأد
وسئل عن سنه فقال: لا أدري لكن قذفت المحصنات في أيام عثمان .
وروى أعين بن لبطة بن الفرزدق ، عن أبيه ، عن جده قال: دخلت مع أبي على الفرزدق ، رضي الله عنه ، . فقال له: من أنت؟ فقال: علي بن أبي طالب غالب بن صعصعة المجاشعي ، قال: ذو الإبل الكثيرة؟ قال: نعم ، قال: ما فعلت إبلك؟ قال:
نكبتها النوائب ، ودعدتها الحقوق ، قال: ذاك خير من سبلها ، من هذا الفتى معك؟
قال: هذا ابني وهو شاعر ، قال: علمه القرآن خير له من الشعر . قال لبطة: فما زال في نفس أبي حتى شد نفسه فحفظ القرآن .
أنبأنا علي بن عبيد الله ، قال: أنبأنا أحمد بن محمد بن النقور ، قال: حدثنا عيسى بن علي ، قال: قرئ على أبي عبد الله محمد بن مخلد قيل له: حدثكم أبو بكر محمد بن إسحاق الصاغاني ، قال: حدثنا أبو حفص الفلاس ، قال: حدثنا قال: حدثنا عبد الله بن سوار ، معاوية بن عبد الكريم ، عن أبيه ، قال:
دخلت على فتحرك فإذا في رجليه قيد ، قلت: ما هذا يا أبا فراس؟ قال: الفرزدق
حلفت ألا أخرجه من رجلي حتى أحفظ القرآن . [ ص: 150 ]
أنبأنا علي بن عبيد الله ، قال: أنبأنا أبو الحسين بن المهدي ، قال: أنبأنا قال: حدثنا ابن المأمون ، قال: حدثنا أبو بكر بن الأنباري ، قال: حدثنا الكديمي ، قال: عبد الله بن سوار ،
أولاد لبطة وسبطة وحبطة والحنطبا قال الفرزدق أبو علي الحرمازي : كانت النوار وهي بنت أعين بن ضبيعة المجاشعي ، وكان قد وجهه إلى علي بن أبي طالب البصرة أيام الحكمين ، فقتله الخوارج غيلة ، فخطب ابنته النوار رجل من قريش ، فبعثت إلى وكانت بنت عمه ، فقالت: أنت ابن عمي وأولى الناس بي وبتزويجي ، فزوجني من هذا الرجل ، قال: لا أفعل أو تشهدي أنك قد رضيت بمن زوجتك ، ففعلت . فلما اجتمع الناس حمد الله وأثنى عليه ثم قال: قد علمتم أن النوار قد ولتني أمرها ، وأشهدكم أني قد زوجتها من نفسي على مائة ناقة حمراء سود الحدق ، فنفرت من ذلك واستعدت عليه الفرزدق ، فقال له: وفها صداقها ، ففعل ودفعها إليه ، فجاء بها إلى البصرة وقد أحبلها ، ومكثت عنده زمانا ترضى عنه أحيانا وتخاصمه أحيانا ، ثم لم تزل به حتى طلقها وشرط ألا تبرح منزله ولا تتزوج بعده ، وأشهد على طلاقها الحسن ، ثم قال: يا أبا سعيد قد ندمت ، فقال: إني والله لأظن أن دمك يترقرق ، والله لئن رجعت لنرجمنك بأحجارك ، فمضى وهو يقول: ابن الزبير
ندمت ندامة الكسعي لما غدت مني مطلقة نوار
فلو أني ملكت يدي وقلبي لكان علي للقدر الخيار
وكانت جنتي فخرجت منها كآدم حين أخرجه الضرار
وكنت كفاقئ عينيه عمدا فأصبح ما يضيء له النهار
تقول وقد مال الغبيط بنا معا عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل
قال علماء السير: لقي الفرزدق الحسن عند قبر ، فقال له الحسن : ما أعددت لهذا اليوم؟ قال: أعددت له شهادة أن لا إله إلا الله منذ ثمانين سنة .
فتوفي في سنة إحدى عشرة ومائة ، وقد قارب المائة . وكانت علته الدبيلة ، فرآه ابنه الفرزدق لبطة في النوم ، فقال له: يا بني نفعتني الكلمة التي راجعت بها الحسن عند القبر .
وقال أبو عبيدة : مات سنة عشر وقد نيف على التسعين ، كان منها خمس وسبعون يباري الشعراء فبذهم ، وما ثبت له غير الفرزدق جرير . [ ص: 153 ]