504 - عبد الملك بن مروان :
مرض فجعل في مرضه يذم الدنيا ويقول: إن طويلك لقصير ، وإن كثيرك لقليل ، وأنا منك لفي غرور .
ونظر إلى غسال يلوي ثوبا بيده ، فقال: لوددت أني كنت غسالا آكل من كسب يدي ولم آل شيئا من هذا الأمر ، فبلغ ذلك أبا حازم ، فقال: الحمد لله الذي جعلهم إذا احتضروا يتمنون ما نحن فيه ، وإذا احتضرنا لم نتمن ما هم فيه .
ودخل عليه الوليد فتمثل عبد الملك يقول:
كم عائد رجلا وليس يعوده إلا ليعلم هل يراه يموت
وتمثل أيضا يقول:ومستخبر عنا يريد بنا الردى ومستخبرات والعيون سواجم
وفي رواية أن الأطباء منعوه أن يشرب الماء ريا ، فكان يشرب قليلا قليلا ، فاشتد عطشه فشرب ريا فمات .
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك ، وابن ناصر ، قالا: أخبرنا أبو الحسين بن عبد الجبار الصيرفي ، قال: أخبرنا القاضي أبو عبد الله الحسين بن محمد النصيبي ، قال: أخبرنا إسماعيل بن سعيد بن سويد ، قال: حدثنا قال: أبو بكر ابن الأنباري ،
حدثني أبي ، قال: حدثنا أحمد بن عبيد ، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد المدائني ، قال:
لما اشتد مرض أيقن بفراق الدنيا والإفضاء إلى الآخرة ، دعى عبد الملك بن مروان ، أبا علاقة مولاه فقال له: يا أبا علاقة ، والله لوددت أني كنت منذ يوم ولدت إلى يومي هذا حمالا . ولم يكن لي من البنات إلا واحدة ، يقال لها فاطمة ، وكان قد أعطاها قرطي مارية والدرة اليتيمة - فقال: اللهم إني لم أخلف شيئا أهم إلي منها فاحفظها . فتزوجها وكان عند عمر بن عبد العزيز . عبد الملك بنوه: الوليد ، وسليمان ، ومسلمة ، وهشام ويزيد ، فقال لآذنه: اخرج فانظر من الباب ثم أعلمني ، فخرج فنظر ثم أتاه ، فقال: بالباب خالد بن يزيد بن معاوية ، وخالد بن عبد الله بن أسيد بن أبي العاص ، فقال: ائتني بسيفي ، فأتاه به ، فقال: جرده ، فجرده ، ثم قال: ضعه تحت ثني فراشي ، ففعل ثم قال: ائذن لهما ، فلما دخلا قال: أتعرفاني؟ قالا: سبحان الله يا أمير المؤمنين ، أنت أمير المؤمنين وسيد الناس وولي أمرهم ، قال: لا إلا باسمي واسم أبي ، قالا: أنت قال: فمن هذا ، وأشار إلى عبد الملك بن مروان ، الوليد ، وكان خلفه قد تساند إليه ، قالا: هذا سيد الناس بعدك ، وولي أمرهم ، قال: لا إلا باسمه واسم أبيه ، قالا: هذا قال: أتدريان لماذا أذنت لكما؟ قالا: لترينا أثر نعمة الله عندك وما قد صرت إليه من التماثل والإفاقة ، قال: لا ولكنه قد نزل بي من الأمر ما قد تريان ، فهل في أنفسكما من بيعة الوليد بن عبد الملك ، الوليد شيء؟ قالا: لا ما نرى أن أحدا هو أحق بها منه بعدك ، قال: أولى لكما ، أما والله لو غير ذلك قلتما لضربت الذي فيه عيناكما - ثم رفع فراشه فإذا بالسيف مجرد قد هيأه لهما ، فخرجا عند ذلك .
ثم أقبل على بنيه فقال: يا بني أوصيكم بتقوى الله فإنها أزين حلة ، وأحصن كهف ، وأخرز جنة . وأن يعطف الكبير منكم على الصغير ، وأن يعرف الصغير منكم حق [ ص: 275 ] الكبير . وإياكم والفرقة والاختلاف ، فإن بها هلك الأولون ، وذل به ذو العز ، انظروا مسلمة وأصدروا عن رأيه ، فإنه مجنكم الذي به تستجنون ، ونابكم الذي عنه تفترون ، وكونوا بني آدم بررة ، ولا تدنوا العقارب منكم ، وكونوا في الحرب أحرارا ، وللمعروف منارا ، فإن الحرب لن تدني منية قبل وقتها ، وإن المعروف يبقى آخره وذكره ، واحلولوا في مرارة ولينوا في شدة ، وضعوا الصنائع عند ذوي الأحساب والأخطار فإنهم أصون لأحسابهم ، وأشكر لما يؤتى إليهم ، وإياكم أن تخالفوا وصيتي ، وكونوا كما قال ابن عبد الأعلى الشيباني:
إني أؤمل يا بني حرب الذرى أن تخلدوا وجدودكم لم تخلد
فاتقوا الضغائن والتخاذل عنكم عند المغيب وفي الحضور الشهد
بصلاح ذات البين طول بقائكم إن مد في عمري ، وإن لم يمدد
وتكون أيديكم معا في عونكم ليس اليدان لذي التعاون كاليد
إن القداح إذا اجتمعن فرامها بالكسر ذو حنق وبطش أيد
عزت فلم تكسر إن هي بددت فالكسر والتوهين للمتبدد
فهل من خالد إما هلكنا وهل بالموت يا للناس عار
فما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدما
إذا مقرم منا ذرا حد نابه تخمط فينا ناب آخر مقرم
لقد أفسد الموت الحياة وقد أتى على يومه علق إلي حبيب
فإن تكن الأيام أحسن مرة إلي لقد عادت لهن ذنوب
أتى دون حلو العيش حتى أمره كروب على آثارهن كروب
ثم قام رجل من ثقيف والناس لا يدرون أيبتدئونه بالتعزية أم بالتهنئة ، فقال: أصبحت يا أمير رزيت خير الآباء ، وسميت بخير الأسماء ، وأعطيت خير الأشياء ، فعزم الله لك الصبر ، وأعطاك في ذلك نوافل الأجر ، وأعانك في حسن ثوابه على الشكر ، قال: ممن أنت؟ قال: من ثقيف ، قال: في كم أنت من العطاء؟ قال: في مائة ، فزاده وجعله في أشرف العطاء ، فكان أول من قضى له الوليد حاجة ذلك الثقفي ، ثم تسايل الناس عليه بالتعزية والتهنئة .
وقد روينا أن عبد الملك كان يقول: أخاف الموت في شهر رمضان لأنني ولدت فيه ، وفطمت فيه ، وأعذرت فيه ، واحتملت فيه ، وختمت القرآن فيه ، وأتتني الخلافة فيه ، فكان موته في نصف شوال من هذه السنة حين ظن أنه آمن من الموت ، وصلى عليه الوليد ، ودفن بالجابية وهو ابن إحدى وستين سنة .
وقيل: أربع وستين ، وقيل: سبع وخمسين ، وقيل: ثمان وخمسين .
واستقامت له الخلافة منذ أجمع عليه بعد قتل إلى وقت وفاته ثلاث عشرة سنة وخمسة أشهر ، وعلى حساب بيعته بعد موت أبيه إحدى وعشرين سنة وستة عشر يوما . وقيل اثنتين وعشرين سنة ونصفا . [ ص: 278 ] ابن الزبير