ثم دخلت
فمن الحوادث فيها هزيمة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بدير الجماجم سنة ثلاث وثمانين
وذلك أن عبد الرحمن نزل دير الجماجم ، وهو دير بظاهر الكوفة على طرف البر الذي يسلك منه إلى البصرة ، وإنما سمي بدير الجماجم لأنه كان بين إياد والقين حروب فقتل من أياد والقين خلق كثير ودفنوا ، فكان الناس يحفرون فتظهر لهم جماجم فسمي دير الجماجم ، وذلك اليوم بيوم الجماجم .
ونزل الحجاج دير قرة - وهو مما يلي الكوفة بإزاء دير الجماجم - فقال الحجاج:
[ما اسم هذا الموضع الذي نزل فيه قيل له: ابن الأشعث؟ دير الجماجم] ، فقال الحجاج: يقال هو بدير الجماجم فتكثر جماجم أصحابه عنده ، ونحن بدير قرة ملكنا البلاد ، واستقررنا فيها .
واتصلت الحرب بينهما مائة يوم كان فيها إحدى وثمانون وقعة ، وكان يحمل بعضهم على بعض ، فحمل أهل الشام مرة بعد مرة ، فنادى يا معشر القراء ، إن الفرار ليس بأحد من الناس بأقبح منه بكم ، إني سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى: عليا عليه السلام يقول يوم لقينا أهل الشام: أيها المؤمنون ، إنه من رأى عدوانا يعمل به ومنكرا يدعى إليه فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ ، ومن أنكره بلسانه فقد أجر وهو أفضل من صاحبه ، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله العليا وكلمة الظالمين السفلى فذلك الذي أصاب سبيل [ ص: 245 ] الهدى ونور قلبه باليقين فقاتلوا هؤلاء المحلين المحدثين المبتدعين الذين قد جهلوا الحق ولا يعرفونه ، وعملوا بالعدوان فليس ينكرونه . وقال أبو البختري : أيها الناس قاتلوهم على دينكم ودنياكم ، فو الله لئن ظهروا عليكم ليفسدن عليكم دينكم ، وليغلبن على دنياكم .
وقال : يا أهل الإسلام قاتلوهم ولا يأخذكم حرج من قتالهم ، فو الله ما أعلم قوما على بسيط الأرض أعمل بظلم ولا أجور منهم في الحكم . الشعبي
[وقال قاتلوهم ولا تأثموا من قتالهم بنية ويقين ، قاتلوهم على جورهم في الحكم] وتجبرهم في الدين واستذلالهم الضعفاء ، وإماتتهم الصلاة . سعيد بن جبير:
فحمل أصحاب عبد الرحمن على القوم حتى أزالوهم عن صفهم ، ثم عادوا فإذا جبلة بن زحر بن قيس الجعفي الذي كان على الرجالة صريع ، فانكسر القراء ، وحمل رأسه إلى الحجاج ، فقال: يا أهل الشام ، أبشروا هذا أول الفتح ، وما زالوا يقتتلون ويتبارز الرجل والرجل مائة يوم .
ثم إن أصحاب عبد الرحمن انهزموا في بعض الأيام ، وأخذوا في كل وجه ، وصعد عبد الرحمن المنبر ، وأخذ ينادي الناس: [عباد الله إلي إلي عباد الله ، إلي أنا ابن محمد] . وجاء إلى جماعة من أصحابه ، فأقبل أهل الشام فحملوا عليهم وهو على المنبر ، فقال له عبد الله بن يزيد الأزدي: انزل فإني أخاف عليك أن تؤسر ، ولعلك إن انصرفت أن تجمع لهم جمعا يهلكهم الله به بعد اليوم . وحضر مع القوم سلمة بن كهيل ، وعطاء السلمي ، والمعرور بن سويد ، وطلحة بن مصرف .
ورأى طلحة رجلا يضحك فقال له: أما إنك تضحك ضحك من لم يحضر الجماجم ، فقيل له: وشهدت الجماجم؟ ، فقال: نعم ورميت فيها بسهم وليت يدي قطعت ولم أرم فيها . [ ص: 246 ]
ثم إنه نزل من على المنبر وانهزم أهل العراق لا يلوون على شيء ، ومضى عبد الرحمن في أناس من أهل بيته إلى منزله ، فخرجت إليه ابنته فالتزمها ، وخرج أهله يبكون ، فأوصاهم بوصية ، وقال: لا تبكوا ، فكم عسيت أن أبقى معكم ، وإن الذي يرزقكم حي ، ثم ودعهم وخرج من الكوفة ، فقال الحجاج: لا تتبعوهم ، ومن رجع فهو آمن .
وجاء الحجاج إلى الكوفة فدخلها ، فجاء الناس إليه ، فكان لا يبايعه أحد إلا قال: أتشهد أنك كفرت ، فإذا قال نعم بايعه وإلا قتله ، فجاء رجل من خثعم فقال له: أتشهد أنك كافر؟ فقال: بئس الرجل أنا إن كنت عبدت الله -عز وجل- ثمانين سنة ثم أشهد على نفسي بالكفر ، قال: إذا أقتلك ، قال: وإن قتلتني فو الله ما بقي من عمري ظمء حمار ، وإني لأنتظر الموت صباحا ومساء ، فقال: اضربوا عنقه ، فضربت عنقه .
ودعا بكميل بن زياد فقتله ، وأتي برجل فقال الحجاج: إني أرى رجلا ما أظنه يشهد على نفسه بالكفر ، فقال: أخادعي أنت عن نفسي ، أنا أكفر أهل الأرض ، وأكفر من فرعون ذي الأوتاد ، فضحك الحجاج وخلى سبيله .
وأقام الحجاج بالكوفة شهرا .