[ " العلم الحادث " ] وإما حادث ، وينقسم إلى ضروري وإلى نظري ; لأنه إن كفى مجرد تصور طرفي القضية في الجزم به فضروري ، وإلا فنظري ، ولا خلاف كما قاله في شرح العنوان " في انقسام التصديق إليهما وإنما اختلفوا في التصور ، [ ص: 84 ] فقيل : ليس منه كسبي ، بل جميع التصورات لا تكتسب بالنظر . واختاره الإمام في المحصل " ، فقال : إن التصورات كلها بديهية . والجمهور على أن كل واحد من التصور والتصديق ينقسم إلى الكسبي والبديهي . قيل : ومذهب الإمام بطلانه ; لأنه يكاد يكون من قسمي الضروري ; لأنها لو كانت بديهية لما وجدنا أنفسنا طالبة لتصور الملك والجن ، ولما طلبت أيضا حدوث العالم ، أو إمكانه ، ولما اختلفت العقلاء في ذلك ، وهو باطل بالضرورة ، لا جرم في غير هذا الكتاب وافق الجمهور . فالتصور البديهي كمعرفة الحرارة والبرودة ، والنظري كمعرفة الملك والروح ، والتصديق البديهي كالعلم بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ، والنظري كالعلم بأن العالم حادث . وقال في شرح الكفاية " : قيل : الضروري هو الذي لا يرد عليه شك . والصحيح : أنه الذي لا يقع عن نظر واستدلال ، وهذا بالنسبة إلى العقلي منه أما الحسي فهو العلم بالمحسوسات . وأما المركب منهما فإن كان الحسي سمعا فهو المتواترات . وإلا فالتجريبات والحدسيات . وفرق بينهما بأنه قد يحصل مرة واحدة والتجربة مرات . وصار القاضي أبو الطيب إمام الحرمين في بعض كتبه وابن القشيري إلى أن العلوم كلها ضرورية جلية ، وأن النظر هو التردد في أنحاء الضروريات غير أن الضروريات [ ص: 85 ] لما انقسمت إلى مهجوم عليه في المرتبة الأولى ، وإلى ما يحتاج فيه إلى فكر سمى أحد القسمين ضروريا والآخر نظريا . قال ابن القشيري ثم الضروري يقع مقدورا لله تعالى خلقا ابتداء من غير نظر متقدم عليه ، وأما النظري فعند معظم الأصحاب مقدور بالقدرة الحادثة .
واختار الإمام أنها مقدورة لله تعالى ، ولا يتعلق بها اكتساب . قال : وهذا الذي كنا سمعناه قديما من مذهب الكرامية ; لأن من تمم نظره حصل له العلم شاء أو أبى ، فلو كان العلم مكتسبا له لتوقف على اختياره ، وقال الأستاذ أبو إسحاق في كتابه الجامع " : ذهب بعض أصحابنا إلى أن العلوم كلها ضرورية ، والذي نختاره القطع بأن العلوم الحادثة بأسرها ضرورية . وإنما المقدور طلبها بالنظر المفضي إليها ، فإذا تم النظر واندفع عن مراسمه أضداد العلم بالمنظور فيه حصل العلم لا محالة من غير إيثار ، ودرك اقتداره ، وهو بالقدرة ، ومن ظن أن العلوم التي تعقب النظر تقع وقوع القيام والقعود ، وما عداها من الأفعال المقدورة ، فقد ظن أمرا بعيدا . ثم إن الأستاذ انفرد بقول لم يتابع عليه ، فقال : يجوز فرض العلم النظري مقدورا للعبد على رأي الجمهور من غير تقدم نظر عليه ، فيكون العلم في حق من اقتدر عليه ، ولم ينظر كالحركات والسكنات الواقعة على موجب إيثار المتصف بها ، وهذا قول غير سديد .
وتحصل لنا مذاهب : [ ص: 86 ] أحدها : أن العلوم كلها ضرورية تصورها وتصديقها ، وليس هذا قولا بإنكار النظر بالكلية ، بل بمعنى أن النظر إذا تم وقع العلم عقبه ضرورة لا مقدورا . الثاني : كلها كسبية . الثالث : وهو الصحيح ، بعضها ضروري ، وبعضها كسبي . الرابع : المتعلق بذات الله وبالاعتقادات الصحيحة ضروري ، وغيره لا يمتنع أن يكون كسبيا ، ويرد عليه أن العبد مأمور بمعرفة الله مثاب عليها ، وذلك إنما يكون فيما يدخل تحت قدرته وفعله . الخامس : التصورات ضرورية ، والتصديقات منقسمة ، وإليه ذهب الإمام في المحصل " ، ويرد عليه ما أورد على الذي قبله ، ولعله يقول : إن المعرفة ضرورية ، والمأمور به العلم بالوحدانية .
واتفقت الأشاعرة على أن ما كان نظريا يجوز أن يقع ضروريا ; لأنه ليس فيه إلا خلق المقدور بدون القدرة ، ولا امتناع منه ; لأن قدرة العبد غير مؤثرة عندنا . قال : وهذا الإجماع من طريق الإمكان ، وأما طريق الوجود فقد أجمع أصحابنا اليوم على أن معرفة الله في الدنيا مكتسبة لا تقع إلا عن نظر واستدلال ، وإنما تقع في الآخرة ضرورية [ ص: 87 ] واختلفوا هل يقع مقدورا مكتسبا من غير نظر ؟ . فاختاره الأستاذ أبو منصور الأستاذ أبو إسحاق ومنعه الجمهور . وهل يجوز أن يقع الضروري نظريا ؟ . فيه ثلاثة أقوال : الجواز والمنع . والصحيح عند إمام الحرمين أن ما كان من العلوم الضرورية لا يتم العقل إلا به يمتنع أن يقع نظريا ، وما ليس كذلك يجوز .