مسألة
[ أقسام النظر ] وأقسامه أربعة : لأنه إما جازم أو لا . وكل واحد إما مطابق أو لا ، وإن شئت قلت : إما صحيح أو فاسد : وكل واحد إما جازم أو غير جازم ، فالنظر الصحيح : هو النظر المطابق . والفاسد . هو الذي لم يفد المطلوب [ ص: 64 ] إما للخطأ في الترتيب ، أو أنه قصد به شيء فأفاد غيره ، أو لم يفد شيئا أو بغير ذلك وقسمه الآمدي إلى صحيح : وهو ما قد وقف الناظر فيه على وجه دلالة الدليل ، وناقض ذلك بقوله : إن الصحيح منه يفيد العلم مع أنه لا يرى الظن علما بل ضدا للعلم ، وهو أحد طرق العلم خلافا للسوفسطائية النافين للحقائق ، والسمنية القائلين بتكافؤ الأدلة ، وشرطه : العقل ، وانتفاء ما فيه كالغفلة ، وهل السهو عن النظر الصحيح والنسيان له ضد له أم لا ؟ فيه احتمالان . وعنده لا يكون غير العلم ضدا له ; لأنه إنما يفيد العلم الظن ليس علما ، وأن لا يكون جاهلا بالمطلوب ، ولا عالما به من كل الوجوه ، ولا من وجه تطلبه ، لاستحالة تحصيل الحاصل ، وقال للقاضي أبي يعلى الإمام فخر الدين الرازي : إنه ينافي العلم بما ينظر فيه ; لأن النظر طلب ، وطلب الحاصل محال وينافي الجهل به ; لأن الجاهل يعتقد كونه عالما ، وهو يصرفه عن الطلب . قيل : لكن هذا في المركب ، وهو ينافي البسيط أيضا ولم يذكره ، وأن يكون نظره في الدليل لا في شبهة . بمعنى أن يقع نظره على الدليل الذي يتعلق به الحكم ; لأنه إذا أخطأ الدليل لم يصح نظره ولهذا ، أخطأ من أخطأ ، لأنه لم يوفق في نظره لإصابة الدليل ، وإنما وقع على شبهة أدرك الدليل غيره ، وأن يستوفي شروط الدليل ، وترتيبه على حقيقة بتقديم ما يجب تقديمه ، وتأخير ما يجب تأخيره وأن يعلم الوجوه التي تدل منها الأدلة ، ولا يكفيه العلم بذات الدلالة مع الذهول عن الوجه الذي منه تدل الدلالة .
قال ابن السمعاني : ويجب أن يكون المطلوب علم الاكتساب لا علم الضرورة [ ص: 65 ] وقال الأستاذ أبو المنصور : يجب أولا أن يكون المطلوب غائبا عن الحس والضرورة فيما يدرك بالحواس ، أو البداهة لا مدخل للنظر فيه . ثم يعلم الضروريات الحسية والبديهية ، وإلا لم يتمكن من رد الغائب إلى محسوس أو معلوم بالبداهة ، ثم يعلم وجود الدليل على ما يستدل به عليه ، ثم يعلم وجه تعلق الدليل بالمدلول ، ومن ثم لم يصح الاستدلال على صدق الرسول عليه الصلاة والسلام بالقرآن المعجز من لا يعرف وجود القرآن في العالم . ولا من عرف وجوده ، ولم يعلم أنه ظهر على يديه . ولا من عرف ظهوره عليه ، ولم يعلم أنه تحدى به العرب فعجزوا عن معارضته بمثله .
قال : ومن شرطه إذا كان دليله يدل على شيئين فأكثر أن يجريه فيهما ، فأما أن يستدل به في أحد مدلوليه ويمنع من الاستدلال به في الآخر ، فإنه مفسد للدليل على غير نفسه ، ولهذا لم يصح استدلال المعتزلة على أن الله عالم بأفعاله المحكمة ; لأن المحكمات كما دلت على كون فاعلها عالما دلت على أن له علما . فإذا لم يجروا هذه الدلالة في علم الباري لم يصح استدلاله بها على كونه عالما .
قلت : ومنه استدلال الحنفية على صحة بحديث بيع الفضولي عروة البارقي ، ولا يصح لأن عندهم ليس له الإقباض . والحديث كما دل على جواز العقد دل على جواز الإقباض . فإذا لم يستدلوا به على عدم امتناع الإقباض لم يصح استدلالهم على جواز العقد . وإذا اجتمعت هذه الشروط كان النظر مثمرا للعلم ومنتجا له ، وإن أخل بشيء منها كان فاسدا ، ولم [ ص: 66 ] يقع بعده علم قال في المعتمد وكل جزء من النظر الصحيح يتضمن جزءا من العلم خلافا أبو يعلى لابن الباقلاني والمعتزلة في قولهم : إن كل جزء من النظر لا يتضمن جزءا من العلم ، بل لا يثمر إلا بعد استكماله ، فإذا استوفى النظر حصل بعده العلم ، وهذا كالنظر في حدوث العالم ، فإننا ننظر أولا في إثبات الأعراض فإذا نظرنا فيه حصل العلم بوجود العرض فقط ، ثم ننظر ثانيا في حدوثه فنعلم حدوثه ، وربما تكون الأدلة على وجود الأعراض أو حدوثها مبنية على أشياء كثيرة يجب النظر فيها ، فيحصل لنا العلم بكل من النظر في تلك الأشياء علما ، وكذلك النظر في سائر الأدلة . قلت : والخلاف لفظي فإنه إن أريد علم ما فالحق ما قاله ، وإن أريد المقصود بالنظر ، فالحق ما قاله الآخرون ، ونظيره الخلاف الفقهي أن الحدث هل يرتفع عن كل عضو بمجرد غسله أو يتوقف على تمام الأعضاء ؟ . أبو يعلى