ولنذكر أمثلة التخصيص : فإن العموم إن جعلناه ظاهرا في الاستغراق لم يكن في التخصيص إلا إزالة ظاهر ; فلأجل ذلك عجلنا ذكر هذا القدر ، وإلا فبيانه في القسم الرابع المرسوم لبيان العموم أليق .
مسألة : اعلم أن وهو الذي يحتاج إلى تقدير قرينة حتى تنقدح إرادة الخصوص به ، وإلى ضعيف ربما يشك في ظهوره ويقتنع في تخصيصه بدليل ضعيف وإلى متوسط . العموم عند من يرى التمسك به ينقسم إلى قوي يبعد عن قبول التخصيص إلا بدليل قاطع أو كالقاطع
مثال القوي منه قوله صلى الله عليه وسلم : { } الحديث . وقد حمله الخصم على الأمة فنبا عن قبوله قوله : { أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل } فإن مهر الأمة للسيد فعدلوا إلى الحمل على المكاتبة وهذا تعسف ظاهر ; ; لأن العموم قوي والمكاتبة نادرة بالإضافة إلى النساء ، وليس من كلام فلها المهر بما استحل من فرجها العرب إرادة النادر الشاذ باللفظ الذي ظهر منه قصد إلا بقرينة تقترن باللفظ ، وقياس النكاح على المال وقياس الإناث على الذكور ليس قرينة مقترنة باللفظ حتى يصلح لتنزيله على صورة نادرة .
ودليل ظهور قصد التعمم بهذا اللفظ أمور :
الأول : أنه صدر الكلام بأي : وهي من كلمات الشرط ولم يتوقف في عموم أدوات الشرط جماعة ممن توقف في صيغ العموم .
الثاني : أنه أكده بما فقال : " أيما " وهي من المؤكدات المستقلة بإفادة العموم أيضا
الثالث : أنه قال : " فنكاحها باطل رتب الحكم على الشرط في معرض الجزاء ، وذلك أيضا يؤكد قصد العموم ، ونحن نعلم أن العربي الفصيح لو اقترح عليه بأن صيغة عامة دالة على قصد العموم مع الفصاحة والجزالة لم تسمح قريحته بأبلغ من هذه الصيغة ، ونحن نعلم قطعا أن الصحابة رضي الله عنهم لم يفهموا من هذه الصيغة المكاتبة ، وأنا لو سمعنا واحدا منا يقول لغيره : أيما امرأة رأيتها اليوم فأعطها درهما لا يفهم منه المكاتبة ، ولو قال : أردت المكاتبة نسب إلى الإلغاز والهزء ، ولو قال : { } ثم قال : أردت به الكلب أو الثعلب على الخصوص لنسب إلى اللكنة والجهل باللغة ; ثم لو أخرج الكلب أو الثعلب أو المكاتبة وقال : ما خطر ذلك ببالي ، لم يستنكر ، فما لا يخطر بالبال أو بالأخطار وجاز أن يشذ عن ذكر اللافظ وذهنه حتى جاز إخراجه عن اللفظ كيف يجوز قصر اللفظ عليه ؟ بل أيما إهاب دبغ فقد طهر نقول من ذهب إلى إنكار صيغ العموم وجعلها مجملة فلا ينكر منع التخصيص إذا دلت القرائن عليه ، فالمريض إذا قال لغلامه : لا تدخل علي الناس ، فأدخل عليه جماعة من الثقلاء وزعم أني أخرجت هذا من عموم لفظ الناس ، فإنه ليس نصا في الاستغراق استوجب التعزير فلنتخذ هذه المسألة مثالا لمنع التخصيص بالنوادر .
مسألة : يقرب من هذا قوله عليه الصلاة والسلام { } إذ قبله بعض أصحاب من ملك ذا رحم محرم عتق عليه وخصصه بالأب وهذا بعيد ; لأن الأب يختص بخاصية تتقاضى تلك الخاصية التنصيص عليه فيما يوجب الاحترام ، والعدول عن لفظه الخاص إلى لفظ يعم قريب من الإلغاز والإلباس ولا يليق بمنصب الشارع عليه السلام إلا إذا اقترن به قرينة معرفة ولا سبيل إلى وضع القرائن من غير ضرورة . وليس قياس الشافعي في تخصيص [ ص: 201 ] النفقة بالبعضية بالغا في القوة مبلغا ينبغي أن يخترع تقدير القرائن بسببه ، فلو صح هذا اللفظ لعمل الشافعي رحمه الله بموجبه . الشافعي
فإن من كان من عادته إكرام أبيه فقال من عادتي إكرام الناس ، كان ذلك خلفا من الكلام ، ولكن قال : الحديث موقوف على الشافعي الحسن بن عمارة
مسألة : ما ذكرناه مثال العموم القوي ، أما مثال العموم الضعيف
فقوله عليه السلام : { } فقد ذهب بعض القائلين بصيغ العموم إلى أن هذا لا يحتج به في إيجاب العشر ، ونصف العشر في جميع ما سقته السماء ، ولا في جميع ما سقي بنضح ; لأن المقصود منه الفرق بين العشر ، ونصف العشر لا بيان ما يجب فيه العشر حتى يتعلق بعمومه . فيما سقت السماء العشر ، وفيما سقي بنضح أو دالية نصف العشر
وهذا فيه نظر عندنا إذ لا يبعد أن يكون كل واحد مقصودا ، وهو إيجاب العشر في جميع ما سقته السماء ، وإيجاب نصفه في جميع ما سقي بنضح ، واللفظ عام في صيغته فلا يزول ظهوره بمجرد الوهم ; لكن يكفي في التخصيص أدنى دليل ، لكنه لو لم يرد إلا بهذا اللفظ ، ولم يرد دليل مخصص لوجب التعميم في الطرفين على مذهب من يرى صيغ العموم حجة .